أعلنت حركة "​مواطنون ومواطنات في دولة​" تصوّرها للنظام الانتخابي، المبني على أساس تخيير الناخبين بين الاقتراع المباشر لمرشحين خارج نظام المحاصصة الطائفية، والاقتراع لمرشحين يريدون تمثيل الناخبين وفقاً لنظام "الواسطة الطائفية".

وأشارت إلى أن القوى السياسية الطائفية القابضة على السلطة تتخبط في نقاشات حول قوانين الانتخاب، وفي ذهنها آلة حاسبة تترجم المقترحات حصصاً لكل منها، وكأن آراء الناس محسومة سلفاً، وتعجز حتى عن ترتيب تحاصصها لحقوق الناس، فتعمق أزماتها الناتجة من شحّ الاموال ومن قلقها من خصومها الطائفيين، ما يسعّر المخاطر.

وأكدت الحاجة ماسةٌ لكسر القيد الطائفي الذي يخنق النظام السياسي اللبناني، وبالتالي للسماح للناس بالتعبير عن أنفسهم، وفتح أبواب بناء دولة مدنية ديموقراطية قادرة وعادلة، من دون إغفال واقع المشاعر والهواجس الطائفية الموجودة عند جزء لا يستهان به من الشعب اللبناني، والتي عززها مسار انهيار الدولة في العقود الاربعة الماضية.

وفي ما يلي نص الوثيقة:

واقع النظام الانتخابي والانتخابات

تم تأجيل الانتخابات النيابية مرتين. مرة بحجة وضع قانون عصري وعادل للانتخابات، لم يناقش في الواقع، ومرة بحجة أوضاع أمنية، لم تحل في الواقع دون إجراء الانتخابات البلدية ولا انتخابات نيابية فرعية في قضاء جزين. انتخابات 2009 كانت نتائجها مقررة في الدوحة، والأغلبية التي حصلتها 14 آذار كان ثمنها حكومة الوحدة الوطنية. قبل ذلك، منذ سنة 1992 تحت الوصاية السورية، وحتى سنة 2005 ضمنا، مع الاتفاق الرباعي، كانت الانتخابات تأتي بعد تحديد نتائجها، فتقسم الدوائر وتؤلف اللوائح لتأمين تلك النتائج. بين سنتي 1978 و1992، حصل تمديد متدحرج للمجلس الذي انتخب سنة 1972، وأتى التعيين سنة 1990. قبل ذلك، كانت الأمور أرحم، إنما لم يغب تدخل المال والسفارات يوما عن الانتخابات في لبنان.

عبر هذه الحقبات كلها تبرز نقطتان ثابتتان:

أولا أن الناخبين يقترعون وفق إحصاء سنة 1932، في أقلام تفرزهم بحسب طوائفهم وعائلاتهم، ما يسمح بضبط سلوكهم الانتخابي بدقة عبر "المفاتيح الانتخابية" الحاضرين ضمن كل عائلة أو فرع منها، والساهرين لرصد أي شذوذ ضمن العائلة عن الولاء للزعيم الذين يرتبطون به وينتظمون ضمن "ماكينته الانتخابية"، فتتولد بنتيجة استخدام مزيج متقن من توزيع المنافع ومن القمع والتهديد "قدرة الزعيم التجييرية" التي يسعى الزعيم بدوره ليحدد، بغية تعظيم مردودها، قياس الدائرة لتخوله إنجاح "البوسطة" واختيار ركابها، من الأتباع أو الممولين.

وثانيا أن المقاعد موزعة على الطوائف. وبما أن التوزع الجغرافي المفترض للناخبين بحسب الطوائف التي ألزموا بها ليس في الغالب صافيا، لا سيما فيما خص "الطوائف الصغيرة" وفي المدن، يصعُب اعتماد صيغة الانتخاب الأكثر رواجا في العالم: أي الدائرة الفردية. فتصبح مسألة أحجام الدوائر المتعددة المقاعد محور البحث كله، مع ما تحمل من مساع من أقطاب السلطة لتعظيم مردود "قدراتهم التجييرية" وشكوى من الأطراف الأضعف من فقدان قدرتهم على التأثير أو، باللغة المستخدمة، من انتخاب نواب الطائفة من قبل ناخبي الطوائف الأخرى.

هاتان الركيزتان هما أساس النظام السلطوي كما يتجسد في الانتخابات، لاتصالهما مباشرة بآليات الضبط التي تعتمدها السلطة على الناس وبين أركانها.

ينتهي الأمر بمجلس نيابي لا يضم فعليا إلا ما بين خمسة وعشرة زعماء. وهؤلاء هم بالذات من يدّعون إقرار قانون عصري وعادل للانتخابات، وهم الذين يطالبهم حسنو النيات بذلك. كأنما هناك أصلا شيء اسمه قانون عصري وعادل للانتخابات. فسواء في لبنان أو في أية دولة في العالم، الأنظمة الانتخابية هي أدوات في يد السلطة لتجديد نفسها وتكييف هيمنتها مع المتغيرات الاجتماعية والديمغرافية والسياسية. منذ سنة 2005، تم تقديم عشرات المقترحات لقوانين الانتخاب، وألفت لجان، واستدعي خبراء، وصرفت أموال غزيرة، وإنما لا قانون انتخابات ولا انتخابات أصلا.

ما معنى المطالبة إذن؟ ومن يطالَب أصلا؟

أنظمة الانتخاب المتداولة

بما أن أطراف السلطة يجمعون على التمسك بركيزتي النظام السلطوي، أي الاقتراع وفق إحصاء سنة 1932 وتوزيع المقاعد على الطوائف، تضيق الخيارات بين الأنظمة الانتخابية كثيرا.

ليست العمليات الانتخابية مجرد آلية بسيطة يختار من خلالها المقترعون ممثليهم، بل هي آلية مركبة أشبه ما تكون بآليات السوق، حيث تضع السلطة نظاما يحدد حجم الأسواق ومواقع المتاجر ومراتب الأسعار والقدرات الشرائية للزبائن، وتتولى القوى السياسية تقديم العرض، ويشكل الناخبون عنصر الطلب. وكما في الأسواق، يحصل ترويج وغش. والعارضون يستبقون الطلب فيصممون العرض بناء على تقديراتهم له، لأذواق المقترعين وأنماط سلوكهم وعواطفهم، بينما الطالبون تضيق خياراتهم أو تتسع بحسب النظام الذي تضعه السلطة وما يطرح من قبل القوى السياسية، فيكيفون تصرفهم وفق ذلك، وما دام التأثير مشروطا بالفوز، أو هكذا يأملون، تنتفي خيارات عديدة أمامهم، ليس لأنها غير مرغوبة بل لأن فوزها معدوم الحظوظ، أو يصبح الذهاب إلى السوق دون جدوى.

القانون الأورثوذكسي والنسبية: تمثيل طائفي صريح

طرحت عدة مخارج، لعل أبرزها ما سمي بالقانون الأورثوذكسي، وهو يقوم على التضحية بالتوزيع الجغرافي للناخبين وفق إحصاء 1932، وتاليا بالقدرة التجييرية، فتنتخب "كل طائفة" نوابها ضمن دائرة واحدة، وتأتي النسبية نتيجة شبه تلقائية لاتساع رقعة الدائرة.

المشكلة هنا مزدوجة: تكريس فدرالية الأنساب المسماة طائفية والإعلان صراحة عن المضامين المكبوتة لآليات الضبط السلطوي من جهة، والتفاوت الهائل في القدرة الاقتراعية للناخبين، بين ناخب ماروني أو سني أو شيعي يقترع لـ34 أو لـ27 مرشحا، وناخب من الطوائف الصغرى يقترع لمرشح واحد أو اثنين... وفي مفارقة لافتة قد يكون القانون الأورثوذكسي هو الذي يفسح أرحب مجال لفتح لعبة التمثيل، في "الطوائف الكبرى" تحديداً، إلا إذا اعتمدت عتبة إقصاء مرتفعة: ينتخب النائب عند الموارنة" بـ3% من أصوات الناخبين الموارنة، وعند السنة أو الشيعة، بنسبة 4% من الناخبين السنة أو الشيعة، لكنه يحتاج إلى 13% عند الدروز والكاثوليك، و50% عند العلويين!

مع تأزم الأوضاع الداخلية بنتيجة تصادم المحاور الإقليمية، أدرك بعض المتنورين في أحزاب السلطة المخاطر المترتبة على استئثار طرف سياسي واحد بكامل تمثيل طائفة من الطوائف، لأنه يهدد بجر الخلاف السياسي إلى صدام طائفي، فراحوا يروجون لفكرة النسبية، ولو على حساب خسارة أفرقتهم بعض المقاعد. عزز هذا التوجه المستجد الجو العام الممتعض أصلا من فظاظة نظام "المحادل"، فتشكل جو عام مطالب بالنسبية. وإذا بأغلبية القوى السياسية الطائفية تعبَّر عن قبولها، ولو ظاهراً، بقدر ما من النسبية في أي قانون انتخابي جديد، مروجة لكونها الحل الوحيد لتمثيل "صحيح وعادل"، وذهب البعض إلى القول إن اتفاق الطائف قضى باعتماد النسبية.

لكن هذه القوى بقيت متمسكة بالتوزيع الطائفي وبالتوزيع الجغرافي العصبي، فراحت تلغّم مقولة النسبية وتفرغها من مضمونها، فأتت المقترحات معتمدة لنظام مختلط، نسبي وأكثري، وعملت على تصغير الدوائر، وأجمعت على اعتماد الأصوات التفضيلية ودخلت مقولات التأهيل الطائفي إلى ساحة النقاش. المشاريع المقترحة تقوم كلها إذن على تكريس القواعد الأساسية للنظام الطائفي، وهي تفرّغ شعار النسبية من مدلولاته.

طرح القوى اليسارية والعلمانية: عتاة الطائفيين يلبسون لبوس العلمانية

بموازاة كل ذلك، بقيت القوى اليسارية والعلمانية متمسكة بمطلبها المزمن المثلث العناوين: لبنان دائرة واحدة، انتخابات نسبية، خارج القيد الطائفي.

من شبه المؤكد أن اعتماد هذا المطلب سوف يؤدي، بحكم الطبيعة التفاعلية للعملية الانتخابية، إلى لبوس القوى الطائفية العباءة اللاطائفية وتأليف لوائح واضحة القيادة والتوجه، تعتمد على التصويت الكثيف لناخبي كل طائفة لصالح لائحة الطائفة "غير الطائفية" شكلا. فينجم عن ذلك احتدام التجييش الطائفي، كون التقاسم الطائفي لا يعود مقيدا. صحيح أنه، في حال خفضت عتبة الإقصاء، سوف تحصل خروقات في الطاقم السياسي، لكن ذلك يكون ثمنه تفريغ حجة الدولة المدنية من فعلها السياسي، إذ يصبح عتاة الطائفيين يلبسون لبوس العلمانية، لأن ادعاء اللاطائفية الذي لا تتورع أشرس القوى الطائفية عن إطلاقه اليوم، إذا دعت الحاجة، يكون قد أصبح قائما في النصوص ومتاحا للاستخدام دون رادع، ودون أية تبعات على صعيد العلاقة الفعلية للمواطن، مرشحا وناخبا، بالدولة. للتذكير، القوانين الانتخابية المطبقة في العراق بعد الاجتياح الأميركي، بدءا من سنة 2004، وفق نصائح مشروع الأمم المتحدة للتنمية الذي يعمل مستشارا في لبنان، تقوم على النسبية وهي خارج القيد الطائفي، وكانت في الفترة الأولى تعتمد اللوائح المغلقة والعراق دائرة واحدة.

الإشكاليات السياسية: سلطة فاشلة

أسس النظام السلطوي في لبنان اليوم

اندفعت الكيانات السياسية الطائفية، منذ نهاية الحرب الأهلية، ضمن ترتيب إقليمي ودولي، إلى إقامة نظام عماده استقدام الموارد المالية والسياسية من الخارج، وتأطير المجتمع والاقتصاد على أساس توزيع هذه الموارد مقابل شراء ولاءات ومكاسب سياسية. لكن هذا النظام ولد تراكما للمطلوبات المالية والسياسية من جهة، وتحولاً مطردا في الاقتصاد وفي البنية المجتمعية عبر هجرتين كثيفتين، خارجة ووافدة، وارتفاعا في كلفة المعيشة وفي كلفة شراء الولاءات.

نجمت عن هذا التراكم المالي ضرورة تخصيص نسبة متزايدة من الدفق المالي من الخارج ومن الإنتاج المحلي لصيانة المطلوبات المتراكمة. والتحوّل المجتمعي نجمت عنه ضرورة تلبية حاجات متزايدة في مقابل ارتفاع مديونية الأسر والمؤسسات والدولة وضرورة مواجهة مخاطر أمنية فاقمتها موجات الهجرة والأوضاع الإقليمية.

أبدى الخارج اهتماما، لأسباب من عنده، بتحييد الوضع الأمني في لبنان عن مآسي المحيط، وتمكن من ذلك حتى اليوم، إنما بكلفة داخلية باهظة. بينما أدى اهتمامه الأقل وعجزه الأبلغ عن صيانة الوضع المالي إلى لجوء مصرف لبنان إلى إجراءات قصوى واستثنائية وجدلية لتأجيل أزمة مالية متفجرة لبضعة أشهر بكلفة داخلية هائلة.

تراجع فاعلية السلطة لا ينجم تلقائيا عن أوضاع المحيط، بل يكمن في العجز عن تعامل الداخل مع المحيط. تراجع فاعلية السلطة أساسه تآكل مقوماتها الذاتية، المالية والبشرية. وهو تراجع مشهود في وجه مخاطر اقتصادية-مالية داهمة من جهة أولى، ومن جهة أخرى، مخاطر اجتماعية-أمنية داهمة أيضا.

تراجع فاعلية السلطة لا ينفصل عن اضمحلال شرعيتها. فشرعية السلطة تقاس بقدرتها على حشد الموارد المالية والبشرية بأقل كلفة، وهي تقوم على انسجام ممارسة السلطة مع منظومة قواعدها الشكلية وخطابها المؤسسي، بحيث يقتنع المواطنون والمواطنات أن لهم حقوقا مصانة وأكيدة في وجه السلطة، أي أنهم مواطنون ومواطنات في دولة.

سلطة من دون دولة

باتت السلطة اليوم في لبنان تعمل من دون منظومة الأطر والقواعد التي تحمل اسم دولة. لذا تظهر السلطة بعريها البشع، متحصنة بالعصبيات والغيبيات والأنساب والمال، ومدمرة لقوى المجتمع الحية. لأن الدولة هي في الوقت ذاته حاجة لإسباغ الشرعية على السلطة وإنما أيضا ضمانة، ولو جزئية، للحقوق في وجه السلطة.

المسألة الوحيدة المطروحة في المرحلة الانتقالية التي يمر فيها لبنان، والتي تمر فيها، بشكل دموي، المنطقة بأسرها، هي إعادة صياغة الأطر الشكلية للسلطة بعدما انهارت مع اندلاع الحروب الإقليمية. فإما أن ينشأ ائتلاف بين سلطات الأمر الواقع القائمة على العصبيات والغيبيات والأنساب والمال، فتنظّم حقوق النقض المتبادلة فيما بينها، وينجم عن هذا الائتلاف أشباه دول، تبقى عاجزة عن تأدية أبسط وظائفها في الدفاع عن مجتمعاتها وعن كرامة مواطنيها، وإما أن ننجح في كسر ادعاء التمثيل الحصري والمطلق لأرباب سلطات الأمر الواقع، وننطلق إلى بناء دولة فعلية، قادرة وعادلة ومدنية وديمقراطية، باتت تمثل حاجة وظيفية ماسة للدفاع عن المجتمع.

هذا التحدي يلزم بتخطي المقاربات المجردة التي تدعي صحة التمثيل، وبمواجهة إشكالية العلاقة المثلثة بين الفرد والدولة والمجتمع. من هذه الزاوية، يكفي النظر إلى التجارب التاريخية من حولنا، فنراها تندرج ضمن نمطين: من جهة أولى، الأنظمة التي توالت في بلدان المنطقة وقد ركزت على تفاعل الدولة كسلطة مع الأفراد، عبر القمع غالبا، تاركة البنى المجتمعية جانبا أو متبنية رموزها عند الحاجة. ومن جهة ثانية، النظام اللبناني الذي قام على تفاعل استتباعي بين الفرد وبنى السلطة الواقعية في المجتمع، من مالية وزبائنية وطائفية، تاركا الدولة ووظائفها جانبا أو ساطيا عليها عند الاستطاعة.

من هنا يصبح مشروع الدولة في لبنان فعلا سياسيا على صعيد المنطقة بأسرها، لأنه يطوي مفاعيل الحرب الأهلية في لبنان ويرسم لدول المنطقة المتخبطة في الحروب صيغة لعلاقة الفرد بالمجتمع والدولة مختلفة عن تلك التي آلت إليها التجربة اللبنانية، مستفيدة من مشاكلها ومتخطية لها.

الإشكاليات الدستورية: سلطة فاقدة للشرعية

تراجع مستمر في متانة قواعد الانتظام العام للدولة وتكريس للطائفية مع ادعاء الغائها

كل من يتتبع مراحل صياغة النصوص الدستورية والقانونية الأساسية وتأويلاتها الطاغية يلاحظ تراجعا مستمرا في متانة قواعد الانتظام العام للدولة وتماسكها.

لم ترد كلمة طائفية ولو مرة واحدة في الدستور حتى تعديل سنة 1989. في موقع واحد، وفي باب الأحكام المؤقتة (المادة 95 من دستور 1926)، ورد النص التالي: "بصورة مؤقتة والتماساً للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة". دستور سنة 1926 لم يلحظ الطائفية إلا بوصفها سلوكا اجتماعيا اختياريا وحالة ظرفية شاذة تستدعي المراعاة في التعيينات العامة. ما سمي "ميثاق 1943" وهو مجرد اتفاق بين شخصيتين سياسيتين في ظرف محدد، نظم توزيع المراكز الأساسية للدولة بين الطوائف. بعد تعديلات الطائف، أصبحت كلمتا طائفي وطائفية تردان سبع مرات وكلمة طائفة مرة ثامنة (في الفقرة ح من المقدمة: " إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية"، وفي المواد 22 و24 و95)، إنما دائما في سياق ادعاء تجاوز "الطائفية السياسية" وإلغائها. غريب هذا الدستور الذي يعتبر "تمثيل الطوائف حاجة مؤقتة وظرفية" طوال ثلاث وستين سنة، وعندما يُعدَّل، يجعل من "الطائفية السياسية" ركنا اساسيا للنظام السياسي ويفرد مساحة كبيرة من نصوصه لها، إنما فقط لتحديد آليات إلغائها، وطوال سبع وعشرين سنة، لا يتخذ أي إجراء تنفيذي لإطلاق أي من هذه الآليات. دستور يكرس الطائفية "التوافقية" على مستوى الإدارة وصولا، بالممارسة وإن لم يكن بالنص، إلى تخصيص إدارات معينة إقطاعات لطوائف معينة، ويدخل تعابير مستحدثة في النص لا محل لها في الانتظام العام، مثل "العائلات الروحية"، فيحول النظام الواقعي إلى فدرالية عصبيات أنساب، تلتئم حول "طاولة الحوار"، وتدعي إلغاء الطائفية السياسية.

نتجت عن هذا المسار المتخبط مسألتان أساسيتان بالغتا الأهمية:

1. أن الدولة في لبنان، وفق الدستور، دولة مدنية وأن القواعد الطائفية ليست سوى استثناء ظرفي تبرره الضرورة. لكن الاستثناء تحول إلى قاعدة وأطاح بالحقوق الأساسية للمواطنين والمواطنات.

2. أن إلغاء الطئفية السياسية هدف رئيس في الدستور غير أن الممارسة الفعلية ذهبت في اتجاه تكريسها حالة دائمة، بشكل سد الأفق أمام ولوج المرحلة الانتقالية المفروضة.

الدولة مدنية والطائفية استثناء، لكن الاستثناء كُرس قاعدة بحجة ضرورة ترفض السلطة قياسها

مشروع نظام الانتخابات التشريعية لحركة "مواطنون ومواطنات في دولة" ينطلق من أساس أن الدولة اللبنانية، دستوريا، دولة مدنية.

"حرية الاعتقاد مطلقة" بموجب الفقرة الأولى من المادة 9 من الدستور، وجل ما تقوله الفقرات التالية من هذه المادة أن "الدولة تكفل حرية إقامة الشعائر الدينية وتكفل للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية". الأساس إذن أن حرية الاعتقاد مطلقة، وحرية إقامة الشعائر الدينية والالتزام بأنظمة الأحوال الشخصية وبالمصالح الدينية متفرعة منها، وتضيف المادة نفسها "على أن لا يكون في ذلك إخلال في النظام العام". حرية الاعتقاد مطلقة أيضا بموجب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية اللذين يُشكلان جزءا لا يتجزأ من الدستور وفق ما جاء في مقدمته. فيكون بالتالي الانتماء أو عدم الانتماء إلى طائفة ما، دينية كانت أم غير دينية، مع كل ما لذلك من مفاعيل يسمح بها القانون، غير جائز إلا إذا صدر عن قرار واعٍ لشخص راشد. وهذا ما أكده القرار التشريعي ل/60 الصادر في 13 آذار 1936 والذي يتضمن، دون أي نص سواه، "إقرار نظام الطوائف الدينية". ومن العودة الى المادتين 10 و11 منه بشكل خاص، يتبين بوضوح أن الانتماء الطائفي هو عملية اختيارية مرتبطة بسن الرشد وليس أمراً واقعاً حكمياً وملزماً بفعل الولادة. وعليه، فإن توزيع المواطنين، كل المواطنين، تلقائياً، على الطوائف حسب الولادة باتباع طائفة الأب، يُشكل خرقاً فاضحاً للدستور وللقانون الأساسي المذكور أعلاه، واعتداء على اسس شرعية الدولة.

بناء على ماذا يدعي أهل السلطة فرض أنظمة انتخابية تعتبر الانتماء الطائفي انتماء حتميا للمرشحين والناخبين إلى طوائف معينة، من دون أن تترك أي مجال لمن لا ينتمون إلى هذه الطوائف أو لا يرغبون بالتعبير عن آرائهم السياسية والوطنية من خلالها. كيف يتماشى هذا الفعل مع نص المادة السابعة من الدستور: "كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية"؟

كيف تتم الإطاحة بالمبدأ الدستوري؟ إن لم تكن الإطاحة اغتصابا مطلقا، فتبريرها الوحيد أنها تأتي بصيغة الاستثناء على القاعدة. لكن الاستثناء يجب أن يكون مقيدا بالضرورات التي قد تبرره، وإلا أصبح اغتصابا للحقوق التي تؤسسها القاعدة وحدها.

من المتفق عليه أن الدستور اللبناني يعتبر النظام الطائفي حالة مؤقتة، تستدعيها ضرورة الانقسام الطائفي. فبوجود الانقسام الطائفي، يخشى أن تفرز الإنتخابات أكثرية طائفية دائمة وأقلية طائفية دائمة مما يعرض الطوائف الصغرى للخطر ويتهدد الديمقراطية. وانطلاقا من ذلك، يأتي النظام الطائفي وفق تصور الدستور الأصلي في 1926 ليضمن الطمأنينة لجميع أبناء الوطن، مهما بلغ حجم الطائفة التي ينتمون إليها. وقد ذهب التعديل الدستوري الحاصل بعد الطائف في 1991 في الإتجاه نفسه، بحيث عدّ النظام الطائفي نظاما مؤقتا. والواقع أن النظام الطائفي يؤدي إلى تقييد حقوق أساسية مثل حصر الترشح في دائرة معينة بأشخاص منتمين لطائفة معينة، ويقتضي من هذا المنطلق تطبيقه بحدود الضرورة، من دون أي تجاوز. وهذا ما تكرسه المبادئ الدستورية في مجال تقييد الحقوق والحريات والتي تخضعها لمبدأي الضرورة والتناسب. ومن هذا المنطلق، تتجه قوانين الإنتخاب المعمول بها والمقترحة إلى اعتبار النظام الطائفي ضروريا 100% بحكم توزيع جميع المقاعد وفق القيد الطائفي، من دون أن تتضمن أي إثبات على وجود ضرورة بهذا الحجم،

لا تتوفر حاليا في لبنان أي آلية تشريعية تسمح بقياس مدى ضرورة النظام الطائفي رغم أن قياسا مماثلا هو حاجة دستورية وفق ما سبق بيانه. فكيف عسانا نقيس حدة الانقسام الطائفي في زمن معين؟ كيف نعرف النسبة التي يقتضي إعمال النظام الطائفي وفقها؟ أهي 50% أم 60% أم 80% أم 100%؟ بالطبع، يحتمل أن تزيد هذه النسبة أو تنقص وفق تطوّر الأوضاع المحيطة. فكيف نضمن أن تكون هذه النسبة هي النسبة الواقعية أي النسبة التي تتوافق مع التوجهات الاجتماعية في تاريخ الانتخابات، أي في تاريخ إعمال النظام الطائفي في توزيع المقاعد؟ ومن هنا، ثمة حاجة دستورية أن يتم تضمين قانون الإنتخاب نفسه آليات معينة لقياس مدى هذه الضرورة،

كل الحقوق للمواطنين والمواطنات الأفراد ضمن إطار الدولة القادرة والعادلة

ما كان للطوائف أن تتشكل بوصفها كيانات سياسية إلا احتماء من سلطة دولة جائرة أو استئثارا بموارد دولة عاجزة، وهي في الحالتين، على تناقض جوهري مع منطق الدولة العادلة والقادرة.

المقولات المتداولة عن حقوق مكتسبة للطوائف في النظام السياسي اللبناني مقولات ساقطة دستورياً، ومارقة قانونياً، ومجرمة سياسياً، فلا حقوق لأية طائفة، بل كل الحقوق للمواطنين والمواطنات الأفراد، سواء انتموا إلى طائفة أو لم ينتموا. وكذلك كل الواجبات على المواطنين والموطنات الأفراد. وقد شهد تاريخ الدولة اللبنانية، أي تاريخ آبائنا وأجدادنا، ما يكفي من الدماء والدموع كي نبدأ ببناء دولة تعيد الحقوق لأصحابها، انطلاقاً من قانون انتخابات تشريعية لا يقطع مع عواطف بعض المواطنين، ولكن يضع الجميع أمام مسؤولياتهم.

أما القول إن المشترع اللبناني لم يسن القوانين الناظمة للأحوال الشخصية للمواطنين والمواطنات غير المنتمين إلى إحدى الطوائف وإن لا مجال بالتالي لعدم الانتماء إلى طائفة، فهو اعتراف بالجرم المتمادي وليس حجة على الإطلاق، إذ لا جواز تحجج المقصر بتقصيره لحرمان المواطنين والمواطنات من حقوقهم الدستورية. والقانون وظيفته تنظيم الحق، وعدم تنظيم الحق لا يلغيه بل يلقي مهام أكبر على القضاة إذا دعت الحاجة.

إلغاء الطائفية السياسية هدف رئيس في الدستور لكنه تحول إلى كذبة كبيرة لغياب أية آلية انتقالية واقعية

لا يكتفي الدستور باعتبار الترتيبات الطائفية استثنائية محكومة بالضرورة بل يشدد على وجوب تجاوزها. غير أن تطبيقاته، ولا سيما في الأنظمة الانتخابية، تخل بالاعتبارين، بالطابع الاستثنائي للترتيبات الطائفية (ما يسمى الطائفية السياسية) من خلال إغفال وجوب بيان الضرورة، وإنما أيضا ببوجوب تجاوزها وإلغائها.

مسألة تجاوز الطائفية ترد في المادتين 22 و24 في باب "السلطات" وفصل "السلطة المشترعة" وفي المادة 95 في باب "الأحكام النهائية والمؤقتة".

ترسم المادة 22 الوضعية النهائية، عند نقطة الوصول المبتغاة، فتقول: "مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية". مع كل الالتباسات التي تحيط بتهابير مثل "العائلات الروحية: و"القضايا المصيرية".

أما المادة 24 فتصف الوضعية الآنية، عند نقطة الانطلاق، فتقول: " إلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، توزع المقاعد النيابية وفقاً للقواعد الآتية: 1) التساوي بين المسيحيين والمسلمين، 2) نسبياً بين طوائف كل من الفئتين، 3) نسبياً بين المناطق."

لكنها عرف عن نقطة الانطلاق بأنها وضعية مستمرة حتى حلول الوضعية النهائية، باعتمادها عبارة "إلى أن" في مطلعها. يصبح السؤال بالتالي: كيف يكون الانتقال من وضعية إلى أخرى ممكنا إن لم يكن من طريق بينهما؟ هنا تأتي المادة "المؤقتة" 95 لتقول: " على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية". فإذا بها تتكلم مجددا عن "خطة مرحلية"، أي طريق للانتقال.

إما أن هذه النصوص لا تعني شيئا وأنها مجرد تبريرات لفظية لوضع يخجل فيه الممسكون بالسلطة من وهن شرعية سلطتهم، وإما أنها تنتظر حصول أعجوبة أو زلزال مثل الذي حل بالعراق مع الغزو الأميركي وفرمانات بول بريمير وما آلت إليه من مآس، والأعاجيب والزلالزل لا تستأذن النصوص الدستورية لحصولها، وإما أنها تعتبر الطائفية مجرد افتراء سلطوي على المجتمع تزول متى تسقط السلطة التي تُطالب إذن بإلغاء مقومات وجودها وهو ما لن تفعله (مر على إقرار الدستور، في سنة 1926، 63 سنة دون حصول شيء من هذا القبيل، ومر على التعديل الدستوري بعد مؤتمر الطائف 28 سنة دون حصول شيء أيضا، لا بل على العكس)، وإما أخيرا أن لهذا النص الدستوري معنى، وأنه صرخة أطلقها النواب بعد 14 سنة من الحرب الأهلية لتخطي مآسيها، وهذا ما نريد أن نصدقه، لأننا حريصون على بلدنا.

الشعب مصدر السلطات وفقا للفقرة د من مقدمة الدستور. وإنما الطائفية واقع مجتمعي وليست مجرد إطار "سياسي" وسلطوي مفروض وإلا كان كل متولو السلطة مغتصبين لها. نقول هذا لأننا حريصون على بلدنا أولا، وإنما أيضا لأننا لا نعتبر متولي السلطة قديسين وطنيين وقعوا ضحية شعب طائفي متخلف عن مسؤولياته الوطنية ولا شياطين اخترعوا الطائفية ليستغلوا شعبا ساذجا.

ما العمل والأمر كذلك؟ تجاوز الطائفية وبناء دولة فعلية يكون وفاقا لتطور المجتمع وبإرادته، وإلا لا يكونان. هل في هذا القول ما يخالف الدستور؟ أبدا، لا بل أن هذا القول هو الترجمة الفعلية الوحيدة للنص الدستوري.

تجاوز الطائفية يكون تدريجيا وفعلا مجتمعيا أو لا يكون. وعليه، فإن الانتقال لا يكون إلا بتطبيق القاعدة المنطقية والفقهية القائلة بأن من كان قادرا على أمر كاملا قادر على كل جزء منه "qui peut le plus peut le moins"، وعليه فإن نص المادة 22 من الدستور الذي يسمح، لا بل يأمر بتجاوز التوزيع الطائفي كليا، يسمح لا بل يأمر ضمنا ومؤكدا بتجاوزه جزئيا وتدريجيا.

مسؤولية مجلس النواب، و"الهيئة الوطنية"، مواكبة المسار وتوجيهه واستخلاص النتائج المترتبة على تقدمه، حتى يأتي مجلس الشيوخ كخاتمة لمسار تجاوز الطائفية تدريجيا. وهذا أمر منطقي طالما أن صلاحيات هذا المجلس تنحصر في القضايا المصيرية، مما يفترض أن يكون المجتمع اللبناني بلغ درجة عالية من الوحدة والاندماج.

موقفنا من الانتخابات في خدمة مشروع سياسي: بناء دولة فعلية، قادرة وعادلة ومدنية وديمقراطية

لا يهم "حركة "مواطنون ومواطنات في دولة" إضافة اقتراح إلى كدسة الاقتراحات. ما يهمنا، إذ نحدد موقفا من النظام الانتخابي، أن نحدد، في الظرف الراهن للدولة في لبنان، موقفا سياسيا من علاقة المواطن بالسلطة، موقفا سياسيا يتم على أساسه حشد القوى وفرزها ومحاورتها.

ترى "حركة مواطنون ومواطنات في دولة" أن من واجبها مواجهة هذا التحدي وأن تتقدم بتصور لنظام للانتخابات التشريعية، لا يقفز فوق وقائع الاجتماع والسلوك السياسيين في لبنان وكأنها لم تكن، إنما يرسي أسس مستقبل سياسي للدولة اللبنانية يعزز مكانة مواطنيها ومواطناتها في حقهم بالعيش الكريم في دولتهم، وبالتالي يقترح على اللبنانيين، وعلى المنطقة العربية المشرقية، وعلى الإقليم والعالم، خارطة طريق للخروج من مأزق الهويات القلقة، وبالتالي المتصارعة، ومن ازدواجية النصوص والنفوس، إلى أفق الخيارات الشخصية الواعية والمسؤولة، والقابلة للتراكم الإيجابي.

نحن في حركة "مواطنون ومواطنات في دولة" نطمح ونعمل لبناء دولة قادرة وعادلة ومدنية وديمقراطية.

* لأننا نريدها قادرة، لا يمكننا القبول بأن تعمل وفق توزيع حقوق النقض لمنظومات أمر واقع، هي الزعامات والمقامات الطائفية.

* ولأننا نريدها عادلة، يتوجب أن تتعامل مع المواطنين وفق منطق الحقوق المتساوية للأفراد لا عبر حلقات وسيطة توفر حاجاتهم مقابل شراء ولاءاتهم.

* ولأننا نريدها مدنية نرى أن العلاقة بين المواطنين والمواطنات كأفراد من جهة والدولة، وبين الدولة من جهة أخرى، لا يمكن أن تمر عبر هيئات وسيطة، كالطوائف مثلاً.

* ولأننا نريدها ديمقراطية، يتوجب أن يكون للمواطنين الرأي الفصل في الخيارات التي تمسّ حياتهم لا أن يبقوا أسرى عصبيات جاهزة تخطف قرارهم.

طرح من منطلق واقعي: استبقاء الوساطة الطائفية مع الدولة كاستثناء للقاعدة

لكن ذلك لا يجيز لنا القفز فوق واقع المفاهيم والعواطف الطائفية، من مخاوف ومطامح، المترسخة تاريخيا في المجتمع والمتحكم بسلوك العديد من الناخبين، لأن تجاهلها يهدد بحرف الديمقراطية وبتعزيز هذه المفاهيم وتأجيج هذه العواطف. لذا نرضى، وحصرا لمن اختار طوعاً استبقاء الواسطة الطائفية مع الدولة، وهو راشدٌ وعاقل قانوناً، أن يحتفظ بها إنما من ضمن ضوابط وتوازنات وضمانات تلجم الجموح الطائفي، فيكون هذا الخيار الصريح استثناءً من القاعدة العامة.

لا تخلو النصوص المؤسسة والمرجعية لأية سلطةِ غلبةٍ سياسيةٍ من الالتباس ومن مجالات التأويل. في واقعنا اللبناني يبلغ الالتباس والتأويل حدا غير مسبوق. فالنصوص تتضمن تناقضات صريحة وفادحة وتستخدم لتبرير الشيء وعكسه إن لم يجرِ تجاهلها كليا لفرض منطق الأمر الواقع، حتى يتساءل المرء عن مبرر استبقائها.

الحجة الأساسية في التصور الذي نعرضه هي الحاجة الملحة إلى دولة فاعلة لحماية المجتمع من الأخطار الداهمة، الأمنية والسكانية والاقتصادية، التي تهدد بقاءه. لكن هذا لا يدفعنا إلى موقف غير مبالٍ بالنصوص، تمسكا بالثقافة المؤسسية.

جوهر الطرح: الاستفتاء والانتخاب

تقترح حركة "مواطنون ومواطنات في دولة" نظاما للانتخابات التشريعية قائماً على اختيار المرشحين أولاً والمقترعين تالياً، الأساس الذي يريدون اعتماده للتمثيل البرلماني بين خيارين:

* الأساس الوطني خارج التصنيف والانتماء الطائفيين (في ما بعد "التمثيل المباشر")

* أو النظام الطائفي النسبي حسب التوزيع الحالي للمقاعد بين الطوائف (في ما بعد "التمثيل الطائفي")."

يُحدد المرشح، عند ترشحه، الأساس الذي يترشح على أساسه، وتترتب على خياره المعلن كل التبعات القانونية الناجمة عنه، ولا سيما على صعيد نظام الأحوال الشخصية الذي يخضع له، وعند الاقتراع يختار المُقترع أيضاً واحداً من الخيارين، ويقترع على أساسه.

عند انتهاء العملية الانتخابية، تحتسب نسبة الأصوات التي أُدلي بها في كل لبنان وفق كل من الخيارين الى عدد مجمل المقترعين ويُوزع عدد المقاعد الإجمالي للمجلس النيابي بين نواب خارج الطوائف ونواب طائفيين وفق نسب الأصوات لكل من الخيارين وتبقى بالتالي المقاعد "الطائفية" موزعة، بين الطوائف، وفق القواعد المعهودة، بحيث تكون نسبة مقاعد كل طائفة إلى مجمل االمقاعد الطائفية وإلى مقاعد كل من الطوائف الأخرى محفوظة، ومنها طبعا مقولة "المناصفة" بين مقاعد مجمل الطوائف "المسيحية" ومقاعد مجمل الطوائف "الإسلامية".

يحدد الفائزون وفق كل من الخيارين بحسب النظام المعتمد كما سوف نرى في الفقرة التالية.

إضافة إلى ما سبق،

* يسمح بالاقتراع للمقيم في أي قلم اقتراع يختاره ضمن حدود الدائرة الانتخابية التي يقترع فيها، باستخدام بطاقة الهوية التي تتضمن معلومات وافية عن حاملها، بما في ذلك بصمات الأصابع، وتُربط كل الأقلام بحواسب مركزية لمنع معاودة الاقتراع. بهذه الطريقة يتم فك الطوق الذي تفرضه الأقلام المبنية على الأنساب والطوائف على حرية اختيار الناخب. إعطاء حق الاقتراع للمغتربين يصبح متاحا بالطريقة ذاتها في السفارات والقنصليات ومراكز اقتراع إضافية تستحدث للغاية ذاتها، وتنسب أصواتهم إلى الدائرة الانتخابية التي يكونون مسجلين ضمنها. هذا الإجراء يصبح سهلا جدا في حال اعتماد لبنان دائرة احدة، أيا كان النظام الانتخابي.

* تطبق الإجراءات المتعلقة بالرقابة الانتخابية، والمال والدعاية الانتخابية، المنصوص عليها في القانون الحالي بجدية كاملة، (مع ضرورة تعديلها واضافة قوانين عليها، (كقانون تنظيم مالية الأحزاب مثلاً) او الغاء بعضها، (كقانون سرية المصارف الصادر عام 1956)، بهدف تفعيل دور هيئة الاشراف على الحملة الانتخابية وضبط فوضى المال الانتخابي).

* يفرض على كل من لوائح المرشحين أن تضم نسبة لا تقل عن الثلث من النساء.

يتضمن النظام الذي نتقدم به، في الأساس، آليتين: آلية استفتائية يقرر من خلالها المقترعون نسبة كل من التمثيل المباشر والتمثيل بواسطة الطائفة، وآلية انتخابية، يختارون من خلالها ممثليهم إسميا. الآلية الاستفتائية تفرض اعتماد المساحة الوطنية دون أي شك، فماذا عن الدائرة الانتخابية والنظام الانتخابي؟

النتائج الدستورية والسياسية

الأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية

مشروعنا هذا يطمح ليشكل قطيعة مع القراءات السياسية التي حكمت المشهد السياسي اللبناني في القرن الماضي، وهو من هذا المنطلق يسعى لبناء الأسس التي تؤمن الحياة الكريمة للمواطنين والمواطنات اللبنانيين في المستقبل من خلال دولة فعلية، ولذلك هو جذريٌ في تشخيصه وفي تموضعه، ولكنه، وبسبب طبيعة مقاربته السلمية، وأهدافه في دولة ديمقراطية، يهدف للتغيير الجذري، عبر مسارٍ تراكمي، يراهن أولاً على وعي الناس لمصالحهم الفعلية.

شهدنا في لبنان قبل غيرنا في المنطقة، وليس لنا في هذا السبق ما نفخر به، وإن كان اليوم يرمي علينا مسؤوليات مضاعفة، شهدنا التحولات الإجتماعية والاقتصادية التي زعزعت هيكلنا السياسي، وخَبِرنا الحرب الأهلية التي جرت وتجري حولنا (العراق وسوريا مثالاً) وذقنا مرارة التغوُّل الطائفي كثمنٍ للسلم الأهلي بعد الحرب الأهلية قبل غيرنا في العراق مثلاً، أو ما يُحضَّر لسوريا مستقبلاً، وبالتالي ما نحن فيه من مرحلة انتقالية، وخاصة ما سينتج عنها سيشكل مرجعية، إيجابية أو سلبية، للمشرق العربي، بالإضافة لتأثيره المباشر على حياتنا وحياة أولادنا في لبنان.

كما لا يغيب عن بالنا أن المجتمعات المتقدمة إقتصادياً، في أوروبا وأميركا الشمالية مثلاً، ليست بمنأى عن سؤال الهويات القلقة، الناتج عن اقترابها من دخول مراحل انتقالية وشيكة، كل منها بحسب واقعه وخصوصياته. وبوادر هذا الاقتراب واضحة في ظاهرة دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأميركية، وفي تشظي الأحزاب اليسارية واليمينية الفرنسية التقليدية، كما في الصعود السريع نسبياً والأفول الأسرع لما سمّي على عجل "اليسار الجديد" في اليونان وإسبانيا وغيرها من دول جنوب أوروبا....

مشروعنا: استفتاء يحدد مدى استعداد المجتمع لبناء علاقة مباشرة مع الدولة وجدلية إجرائية تقود المرحلة الانتقالية

يتميز مشروع حركة "مواطنون ومواطنات في دولة" عن باقي المشاريع بأنه يعطي فورا للناخبين، أي للشعب - مصدر السلطات جميعاً- حق تحديد نسبة من هم مستعدون لبناء علاقة مباشرة مع الدولة، من المرشحين ومن الناخبين، وبالتالي تحديد ما على الطوائف أن تخسره لصالح الدولة المدنية القادرة الديمقراطية والعادلة. كما أن هذا المشروع يجعل من الصعب جداً، إن لم يمكن من المستحيل، معرفة نتائج الاقتراع مسبقاً كما هي الحال اليوم، وكما يأمل أصحاب المشاريع الاخرى، فيُدخل جدلية هي بذاتها آلية المرحلة الانتقالية، فيتعامل مع مقلبي العرض السياسي والسلوك المجتمعي معاً.

الدوائر والنظام الانتخابي

الطرح الذي تتقدم به حركة "مواطنون مواطنات في دولة" يسمح باحترام المادة 24 من الدستور بدقة وصدق ويشكل بالتالي ترجمة فعلية لمنطق الانتقال الذي يقوم عليه الدستور من التمثيل عبر الطوائف إلى التمثيل لمباشر الصادق، أي بإرادة الناخبين.

المحافظة على نسب توزيع المقاعد الطائفية بين الطوائف بكل دقة على صعيد لبنان كله، حتى تبلغ نسبة الاقتراع المباشر غير الطائفي 80%، ويسمح بالمحافظة على نسب المقاعد بين المحافظات الخمس، مع التوزيع الطائفي، بدقة عالية جدا، حتى تبلغ نسبة الاقتراع المباشر غير الطائفي 75%.

* "التساوي بين المسيحيين والمسلمين" مؤمن حتى يبلغ عدد النواب المنتخبين على أساس التمثيل المباشر110 نواب ، ويبلغ الاقتراع على أساس التمثيل المباشر 86% من الناخبين.

* "النسبة بين طوائف كل من الفئتين" مؤمنة حتى يبلغ عدد النواب المنتخبين على أساس التمثيل المباشر 90 نواب ، ويبلغ الاقتراع على أساس التمثيل المباشر 70% من الناخبين.

* النسبة بين المناطق"، أي المحافظات الخمس، مؤمنة حتى يبلغ عدد النواب المنتخبين على أساس التمثيل المباشر 86 نائبا ، ويبلغ الاقتراع على أساس التمثيل المباشر 67% من الناخبين.

غايتنا تقديم صيغة تشمل اللبنانيين وليس تشكيل طائفة اضافية

لا يضيف التصور الذي نطرحه أي صعوبة على الإشكاليات المعقدة التي تحكم الأنظمة الانتخابية في لبنان أصلا. جل ما نسعى إليه الإسهام في حلحلة هذه الإشكاليات، لأن غايتنا تقديم صيغة تشمل اللبنانيين جميعا وتسهم إسهاما حاسما في بناء دولة فعلية في لبنان، وليس أبدا تشكيل طائفة إضافية تحصر اهتمامها "بأتباعها". إشكاليات الأنظمة الانتخابية في لبنان تأتي من التمسك بالركنين اللذين تقوم عليهما كل الأنظمة الانتخابية التي طبقت في لبنان والغالبية العظمى من الأنظمة المقترحة، ولا سيما الالتزام بالتوزيع الطائفي للمقاعد، ما يجعل الأنظمة المتاحة جديا، أي التي توفر الحد الأدنى من فسحات الاختيار والشروط البديهية للمساواة بين الناخبين، محدودة.

الحل الأسهل، توخيا لتشابه النظامين الانتخابيين وفق كل من الخيارين، المباشر والطائفي، يكون باعتماد الدائرة الوطنية للتمثيل المباشر وللتمثيل الطائفي معاً. ولا مشكلة في ذلك أبدا فيما خص التمثيل المباشر، سواء كان الانتخاب على أساس اللوائح المقفلة بالنسبية، وهو المفضل لأنه يشجع على صياغة البرامج السياسية، أو وفق الصوت الواحد (أو عدد محدود ومتساو من الأصوات) للناخب الواحد.

ملحق: قراءتنا لجهة التمثيل الطائفي والآليات الممكنة

تبقى مسألة التمثيل بالواسطة الطائفية. المشكلة هنا لا تتعلق بعدد مقاعد كل طائفة، فتوازن هذه الأعداد بين الطوائف مضمون، بل تكمن في معرفة الانتماء الطائفي للناخبين الذين يقترعون لنائب من طائفة معينة، علما أنه يتم التستر عن هذا الهم البديهي في الخطاب السائد بتقديم اعتبارات جغرافية وإدارية باهتة وشفافة، يشفع بها التمسك بتعداد سنة 1932، وما يوفر من آليات الضبط. من هنا أهمية ودلالة كل من "المشروع الأرثوذكسي" ومقولات التأهيل، والدوائر الصغرى...

ليس صعبا فهم أسس مواقف القوى السياسية الطائفية، فهي تتراوح بين مخاوفها ومطامعها. نقطة الارتكاز ببساطة أن الطوائف تشكيلات مجتمعية-سياسية، وهي على هذا الأساس تتعامل مع الانتخابات النيابية بوصفها انتخابات داخلية غايتها تحديد ممثليها في الحلبة السياسية العامة، وليس بوصفها انتخابات تحدد تكوين القيادة والتوجهات السياسية للبلد. هذا التحول كان نتيجة الحرب الأهلية والتسوية التي أدت إليها.

من هنا يصبح التخوف قائما على مسألتين: ألا يفسح أمام ممثلي الطائفة مجال المشاركة في السلطة، وألا تستطيع الطائفة اختيار ممثليها. اقتراحنا يستجيب للمسألة الأولى كونه يحافظ، للذين يرون علاقتهم بالدولة عبر طائفتهم، على نسبة محددة لممثلي الطائفة من أصل ممثلي كل الطوائف. بقي أن نتعامل مع المسألة الثانية. هذا التعامل مبرر بالقدر الذي تسهّل مراعاته تقبل الاقتراح الأساسي الذي نقدمه وما يرمي إليه من انتقال من صيغة للسلطة العامة معطلة إلى صيغة فعالة. ولكن هذا التعامل مبرر فقط ضمن الحدود التي لا تعطل هذا الانتقال.

في ما خص الذين يرون علاقتهم بالدولة عبر الطائفة، يُفهم ألا يقبلوا بأن يؤثر آخرون يرون علاقتهم بالدولة عبر طائفة أخرى، في اختيار ممثليهم، وعليهم ألا يسعوا بالمقابل إلى التأثير في اختيار الآخرين لممثلي طائفتهم. لكنهم لا يستطيعون رفض أن ينافس جميع الذين يرون علاقتهم بالدولة عبر الطوائف أولئك الذين يلتزمون بعلاقة مباشرة بالدولة. في هذا المجال يبدو اقتراح اللقاء الأرثوذكسي الأكثر التصاقا بالمنطق الطائفي، في حين أن الأنظمة النسبية على دوائر كبيرة ومتنوعة طائفيا، وصولا إلى اعتماد لبنان دائرة واحدة، وكذلك النظام الأكثري في الدوائر المتوسطة والكبيرة المتعددة الطوائف، توحي للذين يرون علاقتهم بالدولة عبر الطائفة بتهديد لتمثيلهم الطائفي و/أو بطموح للتأثير في التمثيل ضمن الطوائف الأخرى.

إن كان اعتماد اقتراح اللقاء الأرثوذكسي يبدو مزعجا لأنه يفصح عن المضمور، سواء طُبق وفق القواعد النسبية أو القواعد الأكثرية (بصوت واحد أو أكثر)، فإن ثمة حلولا توفيقية مطروحة: التأهيل على صعيد الطائفة، أو الأصوات التفضيلية مع زيادة عددها (التي تذهب في غالبيتها العظمى إلى مرشحي طائفة الناخب).

في الخلاصة، يمكن اعتماد واحدة من الصيغ الثلاث التالية:

* الصيغة الأولى، وهي المفضلة، تعتمد لبنان دائرة واحدة والتمثيل النسبي بلوائح مغلقة لخيار الاقتراع المباشر والتمثيل النسبي بلوائح مغلقة لكل من الطوائف (وفق اقتراح "اللقاء الأرثوذكسي") لخيار الاقتراع الطائفي. أهمية هذه الصيغة أن تظهر كلا من الخيارين بوضوح كامل وتعزز مدلولات الخيار.

* الصيغة الثانية تختلف عن الأولى بأن نظام الانتخاب يقوم، للخيارين، على النسبية إنما مع عدد من الأصوات التفضيلية (حتى ثلاثة أو أربعة). بهذه الطريقة يبقى التعامل مع الطوائف بوصفها كيانات سياسية مستترا بعض الشيء، إنما اتساع الدائرة قد لا يطمئن الطوائف "الصغيرة" لأن عدد الأصوات التفضيلية قد لا يكفي بنظرها لتأمين دورها الحاسم في اختيار نوابها.

* الصيغة الثالثة تختلف عن الصيغة الثانية باعتمادها المحافظات التاريخية الخمس دوائر انتخابية مع الأصوات التفضيلية. هذا التعديل كفيل بطمأنة الطوائف الصغيرة والمحصورة جغرافيا في محافظة واحدة، دون أن يحل المشكلة بالنسبة للطوائف الصغيرة جدا أو حتى للطوائف الصغيرة والمنتشرة جغرافيا. لكنه يرفع حكما عتبة التأهيل للوائح الصغيرة ويسهل تأثير العوامل المالية ويصعب اقتراع المغتربين.

* أما الصيغ التي تعتمد التأهيل الطائفي (أو بديلا عنه النأهيل على صعيد القضاء)، فهي تستدعي دورتين انتخابيتين وقد تؤدي إلى نتائج مستغربة بحسب حجم الدوائر الانتخابية في كل من الدورتين.

* أما اعتماد عدد معين من الأصوات لكل ناخب فإنه يعزز شخصنة الانتخابات ويصعب صياغة البرامج السياسية، إضافة إلى أنه قد يؤدي في الدوائر الكبرى وحتى المتوسطة، الخاضعة للتوزيع الطائفي، إلى تباين هائل بين عدد الأصوات التي يخصل عليها الفائزون.

وفق الصيغة المعتمدة، يحدد الفائزون وفق آليات الاحتساب المعروفة.