كلا، ليست الأولوية لقانون الإنتخاب؛ كلا، ليست الأولوية لحقوق المغتربين السياسية؛ وكلا، ليست الأولوية لحسابات طائفية سياسية. في البلد قنبلة اجتماعية موقوتة اسمها الضرورة الملحّة لقانون عفو عام. نعم، هي ضرورة وطنية قبل أن تكون حاجة إنسانية .في البلدان المتقدّمة تشريعياً وقضائياً وديمقراطياً؛ الفارق الزمني بين قوانين ​العفو العام​ لا يطول أبداً وذلك بحسب القانون والعرف والعادة. ففي فرنسا مثلاً البلد الذي اقُتبست منه القوانين اللبنانية يصدر عفوا عاما كلّ أربع أو خمس سنوات.

ماذا عن لبنان؟

ستّ وعشرون سنة مرّت على آخر قانون عفو عام صدر في لبنان تحت الرقم 91/84 تاريخ 26-08-1991.

اكتظّت السجون اللبنانية غير المؤهلة أصلاً لاستقبال البشر والتي تفتقد لأدنى المعايير المفروضة دولياً لحقوق السجين. صدرت مذكرات التوقيف والأحكام الغيابية بحق ما يزيد عن مئتي ألف لبناني.

يُحرَم المطلوبون للقضاء الموجودون خارج الأراضي اللبنانية من تقديم دفاعهم أمام السلطات القضائية اللبنانية، لأن قانون أصول المحاكمات الجزائية يفرض عليهم التوقيف الإحتياطي أو التوقيف قيد المحاكمة لإسقاط الملاحقة والحكم ولإعادة المحاكمة .

طبعاً واقع نظارات التوقيف والسجون اللبنانية لا يُحَفّز هؤلاء أو أيّ انسان حرّ على تسليم نفسه لمكان ينتهك انسانيته.

تغرّب داخل الوطن عشرات الآلاف من المطلوبين للقضاء وهم يرفضون تسليم أنفسهم للسبب المذكور آنفاً أوّلاً، ولانعدام ثقتهم بالنظام القضائي ثانياً، ولظروف إعالة عائلاتهم ثالثاً.

الكثيرُ من المحكومين غيابياً والموقوفين؛ المُساقة بحقهم ملفّات جنائية هم مرتكبون فعلاً للجرائم المنسوبة إليهم والبعض الآخر هم فعلاً أبرياء منها.

فُبرِكت تُهَم جنائية عدّة لسنوات طوال بحقّ الكثيرين لأسباب كيدية سياسية أو طائفية أو عائليّة.

ضاعت الأدلّة الجنائية لمعظم القضايا الغيابيّة بفعل مرور السنين، توفي الكثيرون، هاجر الكثيرون... فأصبحت المحاكمات اليوم شبه مستحيلة أو دون جدوى لأسباب قانونيّة إجرائيّة أو واقعيّة بحتة.

أمضى العديد من المحكومين أشغال شاقة مؤبّدة أكثر من خمس وعشرين سنة في السجن. تمّ اقتراح قوانين تحدّد سقفاً للعقوبة المؤبدة بعشرين سنة أو بخمس وعشرين سنة، بقيت كلها في الأدراج.

البطء في المحاكمات بسبب تراكم الملفات القضائية؛ وقلّة توافر قاعات للمحاكمات نسبة مع الملفات القضائية العالقة والمستجدّة؛ الإستنساب في تطبيق المادة 108 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والتي تحدّد حالات اخلاء السبيل؛ عدم تعديل السلطة التشريعية لمواد عديدة من قانون أصول المحاكمات الجزائية وقانون العقوبات؛ عدم مكننة المحاكم وأقلامها... وغيرها من الأسباب المتعلقة بالمسار القانوني الإجرائي والقضائي للمحاكمات الجزائية التي تنهك المحاكم.

يستحق الحياة من اصطلح وتاب واتَّقَى. قاعدة تتفق عليها كلّ الأديان السماوية. أمّا المعارضون للعفو العام والّذين عرقلوا صدور القانون طوال هذه السنين يبررون رأيهم بما يلي

1-الحفاظ على مجتمع نظيف خالٍ من المجرمين.

2-المساواة بين أبناء المناطق، لا سيما بين أهل البقاع وأهل الشمال وبالتالي وجوب عدم استثناء القانون لجرائم متعلقة بالأمن القومي.

3- الحفاظ على حقوق المدّعين الشخصيين .

وعليه، لا شكّ أنه عند الكلام عن قانون عفو عام؛ فهذا حتماً يستثني الجرائم التي لا إسقاط للحقوق الشخصية فيها؛ هذا من جهة. من جهة أخرى، إنّ عدد المطلوبين غيابيا من منطقة البقاع هو الأكبر بحيث تزيد المذكرات والأحكام الغيابية في هذه المنطقة عن الـ80000 (ثمانون ألفاً) ولكن ذلك لا يعني البتّة أنّ المستفيدين من العفو العام هم فقط أبناء منطقة البقاع، وبالتالي إن الحديث عن التوازن والمساواة ليس إلا لتأجيج الرأي العام ولتحريف الأسباب الحقيقية الموجبة لقانون العفو.

إنّ المجتمع الذي لا عفو فيه تتنامى فيه البغيضة والضغينة وكره الوطن وقد يتحول السجن مكاناً لتشكيل عصابات إجراميّة أخطر تُدير أفراداً من خارج السجن، بدل أن يكون مكاناً إصلاحياً.

العفو العام قد يستثني بعض الجرائم الخطرة؛ وقد يُخَفِّف العقوبة عن البعض الآخر .

اليوم، وفي بداية العهد الرئاسي الجديد وعلى أبواب الإستحقاق الإنتخابي الذي لا بُدّ من قانون جديد عادل له، يتخبّط البلد في شكل القانون المفترض. ولكن من قال أنّ أولوية الوطن هي قانون ما دون سواه؟ الا يستطيع مجلس النواب سنّ أكثر من قانون ملحّ في آنٍ؟

قُطِعت الطرقات للمطالبة بالعفو العام؛ تمرّد السجناء؛ لم تتبنّ أي جهة حزبية أو هيئة مجتمع مدني هذا التحرك. حتى المواكبة الإعلاميّة له كانت خجولة.

إنّ هذا اليوم كان مفاجأة للبعض وهو لم يكن كذلك لِلبعض الآخر. ولكن لا شكّ أنّه جرس إنذار وشرارة قنبلة إما تنفجر تمرّدا فتصنع ثورة معارضة ربّما تصل إلى إعادة خلط أوراق الأولويات الوطنية؛ وإمّا تنفجر إنفراجاً فيصدر العفو العام ويوقّع العهد بحبر جريء ثورة التغيير.