كشفت مصادر مصرفية ان العمليات التي نفّذها مصرف لبنان مع المصارف تحت مسمى «الهندسة المالية» بدأت تباشيرها في عمليات خاصة نفّذها المصرف المركزي في عام 2015، وخصّ بها بنك «ميد»، او بنك البحر المتوسط، الذي يملكه الرئيس سعد الحريري، وذلك في اطار مساعي الاخير للخروج من ازمته المالية

تتقصّى المصارف عما إذا كان مصرف لبنان مستمراً في ما يسميه «الهندسة المالية». ويعود ذلك إلى أن مصارف عدّة أبدت احتجاجها على استثنائها من هذه «الهندسة» من المرحلة الماضية، التي يفترض أنها اقتصرت على عمليات بين حزيران وتشرين الأول الماضيين. لكن المفاجأة، التي كشفت عنها مصادر مصرفية مطلعة، هي أن برنامج «الهندسة المالية» بدأ فعلياً عام 2015، واقتصر في حينه على بنك البحر المتوسط التابع للرئيس سعد الحريري، قبل أن يتوسع إلى مصارف محددة في مرحلة لاحقة بدأت أواخر أيار الماضي.

وبحسب المصادر نفسها، فإن عمليات التحليل والتقويم لموازنات المصارف لعام 2015 كشفت لمعنيين في جمعية المصارف أن «البحر المتوسط» حظي بربح خاص قارب 185 مليون دولار. ليتبيّن بعد التدقيق، أن المصرف تلقّى «برنامج دعم خاص» من خلال عمليات مع المصرف المركزي، كانت على شكل العمليات نفسها التي طبقت في برنامج «الهندسة المالية».

وتلفت المصادر إلى أن هذه الخطوة بقيت «مكتومة القيد» لكونها جرت ضمن خطة دعم خاصة لمصرف الحريري، بعدما دخل مرحلة صعبة من تراجع العمليات المربحة وتعاظم الديون التي يمكن تصنيفها بالصعبة جداً أو الهالكة. كذلك شملت هذه العمليات مجموعة من الشركات التي تعمل من الباطن مع شركات الحريري المتعثرة في السعودية وغيرها، ما وفّر تغطية لجزء من مشكلة الحريري المالية.

وتوضح المصادر نفسها أن مصرفي «عوده» و»سوسيتيه جنرال» كانا أول من فاتح حاكم مصرف لبنان بأمر العمليات التي حظي بها البحر المتوسط، وعلى الأثر جرت العملية الأكبر التي أتاحت للمصرف المركزي معالجة نقص في العملات الصعبة، من ضمن خطة «شراء الوقت». وتجاوز حجم هذه العمليات التي جرت العام الماضي 14 مليار دولار، ووفرت ربحاً استثنائياً للمصارف ولكبار المودعين بنسبة تقارب 40 في المئة، أي ما قيمته 5.6 مليارات دولار، علماً بأن 84% من هذه الأرباح استأثرت بها 7 مصارف فقط.

وتلفت المصادر إلى أن المصارف غير المستفيدة شعرت بالأمر من خلال عمليات نقل ودائع منها إلى المصرفين الكبيرين، ما أثار مشكلات طُرحَت أمام حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فكلّف الأخير موظفاً كبيراً التواصل مع المصارف الشاكية لفتح الباب أمام انضمامها إلى نادي المستفيدين، وهو ما ظهر جلياً في العمليات التي جرت في الأشهر الثلاثة الأخيرة. وأوضحت المصادر الفروقات في العمليات والأرباح بين «عوده» و»سوسيتيه جنرال» و»البحر المتوسط» وبين بقية المصارف. ففي المرحلة الأولى جرت العمليات الواسعة من الهندسة مع هذه المصارف التي قامت بعمليات مالية كبيرة مكنتها من جمع كمية كبيرة من الودائع للإفادة من «الهندسة»، وذلك عبر إعطاء أصحاب الودائع الكبيرة أرباحاً مباشرة، إضافة إلى الفائدة المفترضة. وتفاوتت العمولات بين هذه المصارف لتصل مع حالة «البحر المتوسط» إلى قرابة 32 في المئة تسدد فوراً على الوديعة، بما يذكر بنسب الفوائد على سندات الخزينة في النصف الأول من التسعينيات.

يشار هنا، إلى أن جمعية المصارف لم تكن موافقة على فتح الأبواب بصورة عشوائية، بل نبّهت في مراسلة رسمية مع المصرف المركزي من المخاطر المترتبة على القطاع. ففي محضر اللقاء الشهري بين مصرف لبنان والجمعية ولجنة الرقابة على المصارف، في 14 تشرين الثاني الماضي (تعميم رقم 370/2016)، ورد ما حرفيته أن «مجلس إدارة الجمعية اتخذ قراراً بالتمني على مصرف لبنان إقفال العمليات لاعتبارات سيولة العملات الأجنبية لدى المصارف وللحدّ من انعكاسها على معدلات الفوائد وخاصة بالعملات». وفي المحضر نفسه، ردّ حاكم مصرف لبنان بأن «العمليات حققت الأهداف التي كان يرمي إليها، وبالتالي لم يعد يرى فائدة إضافية لاستمرارها لفترة أطول...». إلا أن المصادر المصرفية تؤكد أن العمليات تواصلت بعد اللقاء المذكور ولم تتوقف حتى اليوم، وذلك بعد شكوى مصارف عدّة لم تحقق أرباحاً تتجاوز ستة ملايين دولار، بسبب عدم فتح أبواب المشاركة أمامها، في ما عُدّ تمييزاً فاضحاً من جانب مصرف لبنان، علماً بأن بعض المصرفيين أشاروا إلى أن سلامة وعد بعض المصارف الصغيرة بإتاحة المجال لها مطلع 2017، ولا سيما أن خمسة مصارف على الأقل أشارت إلى إمكان توفيرها نحو نصف مليار دولار. لكن المعلومات لا تشير إلى سماح سلامة لهذه المصارف بالقيام بأي عملية، وإن تردد أن هذه العمليات جرت أخيراً.

وتلفت المصادر المصرفية إلى أن الجميع لم يكن مرتاحاً إلى ما يجري تحت عنوان الهندسة المالية، والكل يقرّ بأن هدفها في حماية الاستقرار النقدي كلف الكثير، وهي كلفة تشمل حتماً المصرف المركزي ووزارة المالية، وتالياً المواطن اللبناني. لكنها أشارت إلى أن سلامة يعتمد منذ مدة سياسات تهدف إلى تنشيط قطاعات في الاقتصاد الوطني، بسبب غياب برامج العمل من قبل الدولة. وإذ أقرت المصادر بأن هذه ليست مهمة سلامة، لفتت إلى أن الأخير لا يزال يمثل بالنسبة إلى القطاع المصرفي، وإلى المعنيين بالأمر إقليمياً وعالمياً، عنصر استقرار.

يرد هذا الكلام في سياق النقاش المفتوح حول مصير سلامة بعد انتهاء ولايته في تموز المقبل، خصوصاً أن هناك مؤشرات كبيرة على معركة جدية لإطاحته، بعدما باشر هو وفريقه الصغير حملة ترهيب للجمهور وللخارج، على قاعدة ما قاله في برنامج «كلام الناس» قبل مدة، من أنه لا يضمن استقرار النقد في غيابه. وهي عبارة استفزت مسؤولين كباراً في الدولة، ولا سيما الرئيس ميشال عون، الذي ردّد في الآونة الآخيرة الكثير من الأسئلة والملاحظات حول السياسة النقدية. علماً أن رئيس الجمهورية لا يلقي بالمسؤولية على سلامة وحده، بل يحمل الحكومات السابقة المسؤولية الأساسية عن كيفية إدارة الدولة بشكل عام.

وبحسب مصادر سياسية، فإن قوى بارزة في الدولة باشرت التداول بأسماء مرشحين لخلافة سلامة، من بينهم مرشحون بارزون يعملون في لبنان والخارج ويملكون مهارات عالية في إدارة السياسة النقدية والمالية، ولهم علاقات واسعة في العالم. لكن المصادر تؤكد أن البحث الجدي ليس مطروحاً على جدول الأعمال حالياً، رغم أن سلامة يحشد من حوله قوى سياسية يتقدمها الرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط ورئيس القوات اللبنانية سمير جعجع، إضافة إلى غالبية القوى السياسية والاقتصادية التي تدور في فلك 14 آذار. ويجري الحديث عن حوار يجري عن بعد لإقناع الرئيس نبيه بري بالسير في التجديد لسلامة، ما يؤمن غالبية تقف في وجه الرئيس عون.

اللافت هو مباشرة الهيئات الاقتصادية وجمعية المصارف وتجمعات رجال الأعمال عملية الترويج لبقاء سلامة. ويمكن التوقف عند بيان الهيئات الاقتصادية الصادر في 26 كانون الثاني الماضي، الذي طالب «مع قرب انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان بالتنبّه إلى ما قد يولّده الشغور من إساءة إلى الوضع اللبناني المالي»، منوّهاً بما اعتبره «السياسة الحكيمة التي انتهجها مصرف لبنان، والتي أمّنت الاستقرار المالي والنقدي على مدى السنوات الطويلة الماضية، وذلك على الرغم من الظروف السياسية والأمنية التي مرّ بها لبنان على مدى السنوات الماضية». هذا التنبيه من «الشغور» ردده العديد من ممثلي الهيئات، كما لو أن البحث عن بديل لسلامة سيؤدي إلى «الشغور» حتماً!

وثيقة

في العام الماضي، عشية تكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة، كانت الأوضاع المالية للرئيس سعد الحريري قد بلغت مستوى حرجاً جدّاً، ولا سيما مع تراجع أعمال مجموعته «سعودي أوجيه» ووقوعها تحت عبء ديون كبيرة، قدّرت حينها بنحو 15 مليار دولار، منها نحو 548 مليون دولار لدى مصارف في لبنان. هذه الديون أثارت قلقاً واسعاً في القطاع المصرفي اللبناني، إذ يعدّ الحريري واحداً من أكبر 10 مدينين في لبنان، يستأثرون بنحو 4 مليارات دولار من القروض، أي أكثر من 22% من مجمل الاموال الخاصة للقطاع برمته، وبالتالي يشكلون أحد أبرز مظاهر التركّز في القطاع.

حصلت «الأخبار» على وثيقة تكشف حجم ديون الحريري لدى المصارف اللبنانية؛ تتناول هذه الوثيقة وضعيته المدينة في النصف الاول من عام 2016. ويظهر فيها أن الحريري استحوذ على تسهيلات مصرفية من 9 مصارف محلية، بقيمة إجمالية تبلغ 658 مليوناً و740 ألف دولار، وبلغ الرصيد المستعمل منها نحو 548 مليوناً و325 ألف دولار. ويتضح من هذه الوثيقة أن المصارف المعنية اضطرت إلى إعادة جدولة استحقاقات عدّة نتيجة عجز مجموعة الحريري عن السداد.

تقول مصادر مطلعة إن بعض المصارف المعنية لجأت في النصف الثاني من العام الماضي الى تخفيض درجة تصنيف هذه الديون، الى درجة «للمتابعة والتسوية»، وهي درجة منخفضة تعني أن «العميل يعاني من نقاط ضعف قد تؤدي الى تراجع قدرته المستقبلية على التسديد». إلا أن ضغوطاً هائلة دفعت حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى الطلب من المصارف المعنية إعادة تصنيف ديون الحريري عند درجة «للمتابعة»، وهي درجة تعني أن «العميل لديه قدرة ملائمة على الإيفاء بالالتزامات، ولكن مع وجود شوائب».

في تلك المرحلة، كانت مجموعة سامبا المالية قد تقدّمت بدعوى قضائية في السعودية ضد مجموعة الحريري لاستعادة أموالها، وكذلك سعى البنك الأهلي التجاري لتحصيل ديونه... فازداد قلق المصرفيين اللبنانيين، ولا سيما مع اقتراب المزيد من الاستحقاقات (أحدها في شباط الجاري)، ولم يهدأ القلق إلا بعدما تم الاعلان عن قيام صبيح المصري، رئيس مجلس إدارة البنك العربي في الأردن، مع مجموعة من المستثمرين السعوديين والأردنيين، بشراء حصة شركة «أوجيه الشرق الأوسط» القابضة في البنك العربي البالغة 20%، مقابل 1.120 مليار دولار.

تقول المصادر إن الحريري نجح في تسديد بعض الديون المستحقة عليه لدى مصارف لبنانية، وبالتالي تراجعت درجة المخاطر فعلياً، إلا أن هذه المصادر تشير الى أن عملية السداد ترافقت مع عمليات ما سمّي الهندسة المالية التي نفّذها مصرف لبنان مع عدد من المصارف، ومنها بنك البحر الابيض المتوسط، اذ تشير المعلومات الى أن البنك الذي يملكه الحريري حصل على أرباح استثنائية من عمليات المصرف المركزي بلغت حتى تشرين الثاني الماضي نحو 431 مليار ليرة، منها نحو 264 ملياراً حصل عليها أشخاص وظّفوا ودائع بالدولار عبر هذا البنك مقابل عمولات بلغت 32% وسطياً.