لم يشهد تاريخ الولايات المتحدة الأميركية رئيسًا إشكاليًا ومثيرًا للجدل مثل الرئيس دونالد ترامب، وخاصة أنه يُتهم بالعشوائية والنرجسية الشديدة وغرابة الأطوار، علمًا أن الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن، لم يكن أفضل حالاً، خاصة في العديد من القرارات التي اتخذها بناءً على تصورات عقائدية دينية غيبية، والتي أدّت الى إضعاف الإمبراطورية الأميركية ماديًا واستراتيجيًا، وإغراق الجيش الأميركي في حربين لم يخرج منهما بشكل كامل لغاية اليوم.

وقد يكون ترامب بالفعل مثيرًا للجدل ويظهر متهورًا أحيانًا، ولكن ما يتعرض له من حملات قد يكون مردها الى أسباب عدّة منها المرتبط بشخطيته فيتحمل مسؤوليتها شخصيًا، ومنها ما لا يتحمل مسؤوليته هو، ومنها ما يلي على سبيل المثال لا الحصر:

1- من المفارقات أن الديمقراطيين الحاكمين منذ ثماني سنوات في الولايات المتحدة لم يتحملوا خسارة الانتخابات، ويحاولون تقويض وتشويه صورة الرئيس الجديد، علمًا أن نجاح ترامب يعود بشكل كبير الى ما قاموا به بأنفسهم ضد برني ساندرز، الذي كان من الممكن أن ينتصر على ترامب، بينما كان من الصعب على المرشحة هيلاري كلينتون أن تنتصر بسبب عدم ثقة الناس بها، وتاريخها السياسي السابق، ورؤية الناس لها بأنها ممثلة للنظام المتحكم بالسلطة منذ عقود.

2- بعدما نجح الأميركيون في الإطاحة بالعديد من الحكام في العالم من خلال الثورات الملونة، التي تدبرها الإدارة الأميركية ويساهم فيها تمويلاً وتدريبًا جورج سوروس ومنظمته open Society foundation، ها هم اليوم يحاولون الاطاحة بالرئيس المنتخب بنفس الأساليب في الداخل. وتقوم تلك الثورات على تأليب المظاهرات على الحاكم الذي يتم شيطنته إعلاميًا، واتهامه بتزوير الانتخابات والتعامل مع جهة خارجية لغير مصلحة بلاده. وهو ما يتمّ فعله مع الرئيس دونالد ترامب بالتحديد.

مع العلم، أن الحكام في تلك البلدان - وهو ما فعله ترامب أيضًا - تكون قد أعطت بنفسها الذريعة والحجة للهجوم، من خلال تصرفات وأعمال يستطيع مدبري الثورات والاعلام الوصول الى الرأي العام لتأليبه ضد الحاكم المنوي عزله.

3- يأتي ترامب من عالم الأعمال، حيث يدير ويرأس العديد من الشركات العالمية، وتطبع شخصيته بالنرجسية الشديدة، وحب الانتقام، بالاضافة الى ما يبدو أنها استراتيجية مقصودة وهي استراتيجية "تخويف الخصم" قبل الانقضاض عليه أو حتى مفاوضته. يظهر ترامب في سياسته الخارجية تمامًا كصورته في حلبة الملاكمة، حيث يكشر عن انيابه ويصدر أصواتًا مخيفة ويفرد صدره وأكتافه قبل الهجوم الفعلي، وهو بالضبط ما يحاول ترامب أن يفعله من خلال إظهار صورة "المجنون" الذي لا يمكن التنبؤ بأفعاله وليس هناك ضوابط لما يمكن أن يفعل. وبهذا المعنى، اختار من يوصف بـ"الكلب المسعور" - الجنرال ماتيس- وزيرًا للدفاع.

يخطئ من يعتقد أن ترامب مستاء من الصورة التي تُنقل عنه، أي الشخص القاسي، المتهور، المنتقم، الذي لا ضوابط لما يمكن أن يفعله من أجل تحقيق أهدافه، بل هو يعتبر أنها تخدمه في تحقيق استراتيجيته للولايات المتحدة الأميركية. وإذا نظرنا فعليًا لعلاقاته مع الحلفاء والخصوم، فيمكن أن نرى أنه لم يهادن سوى بوتين، لعلمه أن رجل المخابرات السوفياتي السابق لن تمر عليه هذه الألاعيب التخويفية.

بالنتيجة، قد لا تكون سياسة ترامب الشرق أوسطية بالسوء الذي يتوقعه البعض، خاصة بتركيزه على محاربة داعش كأولوية، ولكن المشكلة تكمن في الانقسام المجتمعي والمؤسساتي الذي ظهر الى السطح في الولايات المتحدة الأميركية، وهو إنقسام سابق لوصول ترامب. المعضلة التي تبدو أمام الولايات المتحدة في سياستها الخارجية، انهيار أحد أعمدة القوة الأميركية- القوة الناعمة أي إغراء النموذج الأميركي بالنسبة للعالم باعتباره ضامنًا للحريات العامة، ولحقوق الإنسان وللديمقراطية وانتظام المؤسسات وتداول السلطة...

بهذا المعنى، يؤثر الانقسام الأميركي على القوة الأميركية، فإذا استطاع الديمقراطيون إضعاف هيبة الرئيس في العالم ضعفت السياسة الخارجية الأميركية، وإذا استطاع ترامب التغلب على معارضيه بالقوة، تكون خسارة للمؤسسات والديمقراطية، واذا استمر الصراع الى ما لا نهاية متخذًا عناوين قضائية وتحدٍ متبادل في مجالات عدّة وتهديدات بالانفصال، قد نصل الى يوم، يكون حكم ترامب والصراع الداخلي الأميركي هو بداية نهاية الامبراطورية الأميركية.