راقبوا أولادكم وأحفادكم خلف شاشاتهم، والمعلّمين في مدارسكم والأساتذة في جامعاتكم والمسؤولين والمحللين في شاشاتكم،

ألستم ترون معي بأنّ لغتنا وألسنتنا هي على أبواب التحوّل الكبير المتنامي ؟

عندما طلبتمن الأساتذة بموجب قرار رسمي ، وكنت مديراً لإحدى الكلّيات الجامعيّة، اعتماد الفصحى ولو الميسّرة في المحاضرات والمناقشات مع الطلاّب، كانت النتيجة العداواتوالفشل الذريع، وإحدى أسباب الدفع للإستقالة من الإدارة.

لم تعد تُطرح أو تعني مقولات مثل تيسير اللغة أو تبسيطها إذاً شيئاً، فقد بلغ الإتصال الإعلامي أقصى مداه ، وأضخم أبعاده، فقراءة الصحف، والمجلات، والاعلانات، وسماع أجهزة الإذاعة والتلفزيون، أدخلا الكلمة المنطوقة في كل منزل، لتؤثر في ألسنة العرب وتفكيرهم ومشاعرهم وسلوكهم. وتستغل الصيغ المحكية مواد أساسيّة في الايصال والاقناع، فأقبل الجميع عليها وألفوها، وتنبّه السياسيون والتربويون واللغويون إلى سلطاتها المتنامية الخفيّة، فلحقوا بها بدورهم أحياناً لتتجوّل ألسنتهم وسلطاتهم، وبدا الواقع الإتصالي العربي مساحةً مفتوحة على احتمالات الانهيار المختلفة، ساهم في ذلك، بالطبع، مناخ الانهيار الذي أشاعته وتغذّيه حروب "الربيع العربي" وثوراته الضبابية.

تقفز الى الذهن هنا فكرة قيام السلطات اليونانيّة منذ ربع قرنوبموجب مرسوم جمهوري ، بإلغاء لغة الإغريق القديمة منذ سقراط وصولاً الى إفلاطون مروراً بأرسطو وما بعدهم. ليس هناك من يوناني اليوم يفهم لغة أجداده الإغريق.

لا أتصوّر أن لغةً كان لها حضورعند أهلها مثل العربيّة منذ أربعة عشر قرنٍ مذ كانت لغة الشعر، وصارت لغة الدين، ومن ثمّ لغة الدين والدنيامنذ بني أميّة والعباس، وهي تستمر لكن بجنوحٍ تاريخي مخيفنحو ما لسنا ندركه بعد.

قد يقبل الكلام عن تحوّلات العرب فكرياً من المقدّس إلى التاريخي، ومن الرمزية إلى الواقعية، ومن الإشارة الى الشيء، أو من الأسطورة الى الحقيقة، لكنّهم بقوا مسكونين بهاجس مثلث الأبعاد لأسطوريّة لغوية طبعت وجودهم، ونعني بها، أسطوريّة انتفاء الكلام بعد الكمال اللغوي حيث اللغة كنز كان خارج التاريخ تجسّد في النصّ الكريم، وأسطورية الوحدة التي لمتتمثّل يوماً، بل بقيت حلماًقامت اللغة في ابعاده ومساحاته الزمنية والمكانية، وفي ذاتها أيضاً حيث يتكوم التاريخ في ماضيه ومستقبله في لحظة الوحي، وأسطورية اللغة الإلهية في نطق الغيب الأزلي. أمور كانت تمثل وتقوى على الرغم من مرور اللغة العربية بمراحل ثلاث: الدينية، الميتافيزيقية والعلميّة كسلاح تصونه الأسطورة المثلثة.

فإذا كانت اللغات، وفيها العربيّة عموماً، تبدو محكومةً اليوم بصفات عالمية تفترض الاقتصاد في التعبير، والايجاز، والبساطة، فإن اللغة العربيّة آيلة، ربّما، إلى زمن يحتاج فيه العرب، إلى مَن يترجم في ما بينهم، أو ينقل إلى الفصحى، هذا إذا بقيت هذه الفصحى مثار اهتمام كبير بالنسبة للأجيال المستقبليّة.

مذهلة تلكال"ليتنة"Latinisation الحاصلة لشكل اللغة العربية ، بقصد الإشارة إلى الإقبال الملحوظ للشباب والشاباتالعرب على اعتماد هذه الصيغة كتابةً جديدةً على شاشات الحواسيب في اتصالاتهم العصرية، مع العلم أنّهم قد لا يعرفون معنى الليتنة ولا أية نظرية أخرى في إصلاح العربيّة. وتتعاظم هذه الظاهرة عربياً، في الوقت الذي تُثار فيه مسائل توحيد الحرف الإلكتروني، والبحث عن حرف عربي متقدّم في تقنيّة التعرّف البصري على الحروف (O.C.R.)وحيث يحافظ الحرف الواحد على شكله الأوحد، سواء وقع في بداية الكلمة أو وسطها أو نهايتها، وذلك بهدف السرعة والسهولة في القراءة.

ولقد رأينا كيف أفرزت مصطلحات اللغة والسلطة والفصحى والعامية وغيرها في تسمياتها مجموعة من الإشكاليات والمواقف والآراء والمذاهب القومية والسياسية والدينية واللغوية النظرية، أوجدت بدورها مكتبة غنيّة وتراثاً من المعارك النقدية والدراسات والأفكار المتباينة والمتكررة حول مستقبل اللغة العربية.

وتبدو الغرابة في أن هذا التراث النظري المتوخي للإصلاح والتيسير اللغوي في تشعّباته يسير في اتجاه، بينما اللغة العربية تجري في اتجاه آخر في استعمالاتها، فلا يحدّ هذا التراث أويوقف أو يغيّر أو يطور مجرى اللغة في الألسنة والكتابة. ولقد بقي الظن بسيادة الفصحى وقوتها مسألةً وهميّة ومثالية. كما بقي الظن بنجاح الدعوات إلى تحويل هذه اللغة العربية واستبدال حروفها وهماً أيضاً ومثالاً. فلا الهجوم على اللغة الذي استمرّ طيلة القرنين التاسع عشر والعشرين حقق فائدة مرجوّة، ولا التصدّي للمهاجمين صان اللغة وحال دون تدهورها... إن لم نقل تطوّرها الطبيعي.والأخطر من ذلك كلّه، أن صراعات الفصحى والعامية، بدت مشاكل جديدة قديمة في حدّ ذاتها، تُضاف إلى إشكاليات اللغة العربية الكثيرة.

ولأن اللغة، وهو الأهم، بقيت أقوى، في مسارها الطبيعي فصحى أو عامية، وأصلب من الدراسات والمقترحات والأفكار التي قد تكون واكبتها على المستوى النظري لكنّها لم تتجاوزها ولم تأخذ حيّزها من التطبيق، ولأن اللغة كانت تسبقها دوماً ممثلة الحياة في غناها وتفاعلاتها وتحوّلاتها. جئنا نطرح الأسئلة على العربوعياًلهذهالتحولات وتلك المزالق التي تقود إلى تقليديّة تفترض الحد من صراعات الفصحى والعامية حيث أننا صرنا في زمانٍ آخر، فنتحكم بالموضوع بهدف الكشف عن خصوصيّات هذا الصراع وأبعاده الفعلية، للبحث عملياً في كيفية انهيار اللغة التي لم تكن تتحقق سيادتها إلا عبر الدول والسلطات التي يبدو انهيارها انهياراً مرادفاً للفصحى، وبشكل لم يسبق له مثيل أو لم نشهده في تاريخ هذا الصراع... وبتنا نتلمّس أن حضور وسيلة اعلامية وسلطاتها تفوق أضعاف سلطات أخرى فعلية قائمة بدت تنحدر وتذوي، فلا تحافظ على نفسها، وتعجز على ألاّ تكون منقادة إلى سلطات الاعلام الجديدة. وأن إذاعةً بسيطة في برامجها لقادرة، ربّما، على إحداث تغييرات جذرية في صلب اللسان العربي وسلوكه وتوجّه مساره ومستقبله.

ما العمل؟

العالم يركض نحو الإنكليزية وأميركا تتعلّم الصينية وتفشّي اللسان يعني طغيان الحضارة وتوسعها.أين هو اللسان العربي الموصوم بالإرهابي في العالم يقودك الى السجون أو المطارات؟

في جعبة كلّ منّا أفكار وخطوات تتجاوز الجمعيات والمؤسسات التي تصرف الميزانيات الكبرى في المجال لكنها لا تتقدّم بنا خطوة الى الأمام ولو من قبيل الحد من الإنهيار.