يسرح النائب وليد جنبلاط في الإليزيه. له على تلك الأدراج ذكرياتٌ جميلة جمّة. قد يعود من هناك من دون بعضها. يستغلّ بعضهم غياب “النقّ” والتصعيد “التويتري التوتيري” ليعيد إنعاش النسبية الخابتة المنتظرة من ينتشلها من مستنقع “الستين”، ومن أجدر بذلك أكثر من حزب الله خصوصًا عندما يقرّر العزف على وتر بعبدا نفسه؟

بدت أولوية القصر أمس محصورة في بُعدَين: الترؤُّف بالطبقة الفقيرة أولًا وبالطبقة المسيحية ثانيًا. في البُعد الأول كان اللقاء مع وزير المال لتلافي فرض الضرائب على الشعب، وفي البُعد الثاني كان اللقاء مع وفد حزب الله لتدعيم موقف سيّد القصر السلبي من القانون الأكثري غداة توقيع رئيس الحكومة سعد الحريري مرسوم دعوة الهيئات الناخبة.

مناورة بسيطة

لا يمكن لرجل الرئيس نبيه بري الأول أن يحضر الى بعبدا من دون أن يحضر معه قانون الانتخاب حيث كان تماهٍ علني غير مفاجئ بين الفريقين إزاء إقرار أي قانون غير “الستين”، وهو الموقف المتناغم مع قناعة بري بضرورة التصالح مع ما سبق وأعلنه ومفاده أن “قانون الستين سيُشعل ثورة في الشارع”. ربما لم يضرب بري يومها حسابًا لشراسة دفاع النائب وليد جنبلاط، حليف الأمس واليوم والغد، عن القانون الساري ورفض أي شكل من أشكال النسبية، ومع ذلك بقي متمسّكًا برفض “الستين” مع مناورة بسيطة إزاء أي مختلطٍ يمكن أن يناسبَ سيّد المختارة أولًا الذي “يسوح” في شوارع باريس الباردة.

... يبقى الجبل

يمضي حسن خليل فيطلّ وفدٌ من حزب الله على القصر. هي زيارة اطمئنان قبل كلّ شيء ووضع حدٍّ للألسنة التي تعشق رمي الفتائل ويستهويها الشُقاق ويُنشيها “القيل والقال”. أراد حزب الله أن يؤكد أن ذاك “الجبل” الذي تحدّث عنه الأمين العام السيد حسن نصرالله في قصر بعبدا يبقى في عيون أبناء الضاحية والجنوب والبقاع الشيعة جبلًا ولعلّ هذه القناعة إنما تعززت من خلال كلام الرئيس عون الواضح للقناة المصرية ودفاعه الشرس عن دور المقاومة وسلاحها حتى تحرير آخر شبر من الأراضي اللبنانية المحتلة. ولعلّ هذه الزيارة كانت أيضًا بمثابة ردّ جميل أو شكر على الموقف الوطني النابع من وثيقة مار مخايل ومن ضرورة التمسّك بها وصونها حتى بعد وصول عون الى قصر بعبدا ورغم بعض الشكوك التي من شأن الرئيس الجديد للتيار جبران باسيل أن يزرعها في نفوس رجالات حزب الله.

من اليد التي تؤلمه!

أما بعد الشكر والقُبل، فكلامٌ جدّي يشكّل بيت القصيد في بلدٍ يعرج بعدما أمسكه ساستُه من “يده التي تؤلمه” ألا وهي الانتخابات التشريعية. لا حاجة الى أن ينقل وفد الحزب أو سواه عن رئيس الجمهورية موقفًا أو همسًا طالما أن الرجل واضحٌ شديد الوضوح إزاء نقطتين جوهريّتين لا تراجع عنهما: لا للستين، والانتخابات في موعدها. قناعتان تخرقهما فرضية ثالثة قد يسمح بها القصر تحت مسمّى “التأجيل التقني” مع تأكّد وتيقّن من حقيقة إقرار قانون جديد غير “الستين” ليبقى ذاك التأجيل من باب الضرورة اللوجستية.

رفع سقف

كلّ الضغوط ملقاة على كاهل الرئيس عون اليوم لا سيما بعد توقيع الرئيس الحريري مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، وفي هذا المجال يُهمَس كلامٌ برتقالي مفادُه أنه حتى لو أتى ذلك برضى وتنسيق تامّين مع رئيس الجمهورية فإن زيارة حزب الله الى القصر تحمل من الدعم ما يريح الرئيس وما يجعله على يقين من أن حزب الله يعضده في كلّ مواقفه حتى بعدما غدا رئيسًا. أما في ما يتعلق بالتناغم بين عون وحزب الله إزاء رفض الستن، فيبدو الموقفان واضحين لا سيما على جبهة حزب الله الذي ذهب بعيدًا الى حيثما لم يتوقع أحد بطرحه النسبية البحتة مع علمه المسبق بأن أحدًا لا يمكنه السير بهذا الطرح، وبالتالي يؤكد مواكبون أن حزب الله أراد رفع السقف بطرحه ذاك ليحصل على أفضل النتائج على مستوى القوانين المطروحة. أما “الستين” فلن يمرره الحزب على السواء وذلك بالتنسيق التام مع رئيس الجمهورية والرئيس نبيه بري. ومع ذلك، تبقى خشية يعبّر عنها المجتمع المدني بدوره من أن يُجرَّ الجميع الى خيار الستين مكرهين ليجدوا أنفسهم مضطرين للارتضاء به من باب المفاضلة بينه كحقٍّ ديمقراطي للناس بغض النظر عن القانون وبين التمديد الثالث الذي هو أسوأ الخيارات وبين الفراغ الذي ضؤلَت حظوظه بعدما قامت قيامة الدستوريين ولم تقعد حتى اليوم.

مزيدٌ من الثقة

أراح كلام حزب الله وجهًا لوجه الرئيس عون أمس. منحه مزيدًا من الثقة والدفع والقناعة بأن فريقًا آخر غير الفريق المسيحي وهو الطرف الشيعي يرفض قانون الستين ويبارك للرئيس عدم توقيعه مرسوم دعوة الهيئات الناخبة رغم أن الوقت أمامه ما زال متاحًا لإعادة حساباته، والأهمّ أنه مفتوح أمام الكتل النيابية للتفكير في صيغةٍ جديدة ترضيهم ولا تكسر في المقابل كلمة الرئيس في مطلع عهده.

هل أوصدت الأبواب؟

في المحصّلة، هي زيارةُ دعمٍ لا تعني في نهاية المطاف ولادة قانون جديد بين ليلةٍ وضحاها، ولعلّ خروج الرئيس بري الى ما وراء الحدود ليتنفّس بعد “المرارة” التي تذوّقها والتي يتذوّق نوعًا آخر منها انتخابيًا خير دليل على الإفلاس الحالي ووصد الأبواب على غير “الستين” لتعود وتُفتَح قريبًا أمام أوراق وصيغٍ “تُفلفَش” وتتراكم وتجمع بين أكثر من قانون على أساس الصيغة المختلطة بعد بشائر القبول بقانون مختلطٍ عادل، علّ أحدها ينتصر في نهاية المطاف ويُثلج الرئاسات الثلاث بلا حرج أمام الرأي العام الذي ينتظر من الرئيس عون ما لم ينتظره من سواه في هذا الملف وسواه.