مرت الايام الماضية صعبة على بلدات بقاعية تقع في محافظة بعلبك-الهرمل. تكررت الحوادث الامنية في عدد من القرى، وأدت الى سقوط ضحايا وجرحى كان آخرهم في سرعين. الغريب ان كل الاشكالات التي وقعت، حصلت اما بسبب افضلية مرور سيارة او بطئها او سرعتها، او بسبب فتاة. سقط اثنان من آل شومان في سرعين، وقبل ذلك ثمانية جرحى في بلدة الخُضر، وحوادث تتكرر لا تعد ولا تُحصى. فما هي الدوافع؟ وهل تتحمل الدولة وحدها مسؤولية عدم ضبط الامن؟ ام ان العائلات مسؤولة عن "شهوة الدم"؟

يرفع أهالي بعلبك-الهرمل مطالب تنموية بسبب الحرمان الذي تعانيه المنطقة منذ عقود. يعتبرون ان فقدان النمو وعدم الاهتمام الرسمي بالدورة الاقتصادية وغياب الإنماء المتوازن يؤدي الى تفلت الناس من ضوابط الامن والاستقرار. هذا جزء من الازمة، ومؤسسات الدولة مسؤولة عن تدهور اوضاع البقاعيين معيشياً. لكن اللافت ان معظم الحوادث تحصل بين الطبقات المتوسطة لا المعدومة.

اشكالية لا بدّ من الغوص بتفاصيلها لتشخيص حقيقة الازمة وسُبل المعالجة.

تاريخيا اقتصر دور الدولة في بعلبك-الهرمل على إعطاء رخص السلاح للمواطنين، وتشكيل لجان الحلّ والربط. لم تؤسَس بيئة مجتمعية تنسجم مع فكرة الدولة. بقيت العشائر صاحبة الكلمة النافذة مع موروثاتها في الثأر، رغم تحلي البقاعيين بالشهامة والكرم وحُسْن الأخلاق والطيبة.

في سبعينيات القرن الماضي نجح الامام موسى الصدر في محاربة "شهوة الدم" عند أهالي بعلبك-الهرمل، وتفرَّغ لوأد عادات الثأر، وأنجز ميثاقا إستند اليه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه مؤخرا، الذي اطلق فيه المصالحات بإسم حزب الله و حركة امل في البقاع.

تحرك الحزب والحركة في لجان ناشطة بكل البلدات والقرى ومع كل العشائر والعائلات. رغم ذلك الجهد والمثابرة بقيت الحوادث تتكرر. اللافت ان حضور اجهزة الدولة ينشط بعد احتدام الخلاف وسقوط الدم. هناك من يعتبر في البقاع ان حزم الدولة مفقود. يستند مثلاً الى ايام مهرجانات بعلبك في موسم الصيف: لماذا يكون الامن مضبوطاً بالكامل حينها؟ لو كان التعاطي دائماً وليس موسمياً لتمت تسوية امر الامن في بعلبك-الهرمل نهائيا. الامر لا تتحمل مسؤوليته قيادة جيش ولا امن داخلي، بل سلطة سياسية يجب ان تفرض تنفيذ خطة دائمة، تُحاسب بعدها المقصّرين. اللافت ان أهالي بعلبك-الهرمل يطالبون بالحزم الأمني. يستفيدون منه في طمأنة اللبنانيين لجذب السياحة الى مناطقهم، ومنع سرقة سياراتهم مثلاً.

المحاسبة مطلب أساسي. لكن البقاعيين يعتبرون مدخلها يكمن في تسوية اوضاع المطلوبين وغربلة أسمائهم بحسب ارتكاباتهم الجرمية او أحكامهم القضائية. هنا تجري المطالبة تحت عنوان العفو العام المدروس. يبدو المطلب مدعوماً من الأحزاب واللقاء الوطني لعائلات وعشائر بعلبك-الهرمل والشخصيات الروحية. لكن مطبات توضع امام الطرح لاعتبارات قانونية تستحق الدرس، وتلميحات سياسية بأن يشمل العفو مناطق ومحكومين آخرين شمالاً وجنوباً.

البقاعيون يستعجلون الحلول. واجب الدولة ضبط الامن، وهي قادرة على فعل ذلك حين تتوافر الإرادة السياسية والمحاسبة الحقيقية في مراقبة تنفيذ القرار الحازم. لكن واجب العائلات ايضاً مؤازرة الدولة، وعدم التكاتف خلف مطلوب او مرتكب بحجة القرابة والعشائرية او ممارسة الضغوط للافراج عنه. واجب العائلات محاربة الموروث الصنمي في عادات الثأر. آن اوان خروج البقاع من دورة "شهوة الدم". لم تجلب للبقاع سوى القهر والرجعية والفقر والاهمال. لم يعد يستطيع البقاعيون تحمل عبء الأحداث الدموية التي تحصل. هم يدفعون الضريبة في كل مرة: حياة ابنائهم، وضياع مستقبل أجيالهم الصاعدة، واهمال مناطقهم وسوء السمعة.

البداية تبدأ عند الدولة امنياً وإنمائياً. لا يستطيع وزير ولا وزيران من بعلبك-الهرمل سد نقص الاهتمام الحكومي العام بالبقاع. مطلوب استنفار وزاري يبدأ برسم خطة واضحة، وفرض الأمن لإيجاد ارضية للاستثمارات الاقتصادية والمعيشية، ويجري الاستكمال بتطبيق الإنماء المتوازن.