فوجئ الجميع في الولايات المتحدة وحول العالم، بالخطاب المتوازن والمنمق للرئيس الأميركي ​دونالد ترامب​ أمام الكونغرس، في 28 شباط المنصرم. وقد أشادت الصحف الأميركية المعارضة والموالية على حد سواء، بهذا الخطاب التاريخي، كما أشارت استطلاعات الرأي - التي أوردتها سي أن أن المعارضة- أن 7 من 10 من المستطلعين أعتبروا الخطاب ايجابيًا. ولعل نشوة الانتصار التي ساقها معارضوه من الديمقراطيين خاصة بعد استقالة مستشار الأمن القومي مايكل فلين، وتعيين ترامب لماكماستر والذي يعدّ نقيضًا ايديولوجيًا لفلين في هذا المنصب، قد تبخرت بعدما عاد ترامب واستعمل مفردات "الاسلام الراديكالي المتشدد" بعد كل النصائح التي ساقها ماكماستر لرئيسه في الاعلام، وكرر جميع الوعود التي أطلقها في جملته الانتخابية ولكن بلغة أكثر سلاسة هذه المرة.

وكما كان واضحًا منذ البداية، فإن ترامب الذي أثار الكثير من الانتقادات والسخرية، ليس مجنونًا، بل هو يستعمل تكتيكات تجعل مناوئيه وأعداءه وحتى حلفاءه يتحسبون له باعتباره "خطيرًا" لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، بعكس اوباما العقلاني الذي كان من الممكن بسهولة التنبؤ بما ينوي القيام به، أو يخطط له.

ويخطئ من يعتقد أن ترامب وفريقه هم ضد ما يسمى الدولة الاميركية "العميقة"، والتي يسيطر عليها مجموعة من النافذين في مجال الشركات العملاقة، والمجمع الصناعي العسكري، والجيش. بل إن فريق ترامب وإدارته، مكون من مجموع هؤلاء معًا، يضاف اليهم بعض القوميين المؤيدين لمجموعات البيض الاميركيين. فبعكس إدارة أوباما، تحتوي إدارة ترامب على عدد لا بأس به من الاثرياء النافذين في الشركات العملاقة، منهم وزير التجارة، وزيرة المشروعات الصغيرة، وزير الخزانة، وزير الخارجية، وزيرة التعليم، وزيرة النقل، وزير الاسكان، وزير العدل، وزير الطاقة الخ... بالاضافة الى مجموعة من الجنرالات الأميركيين المشهود لهم.

أما اختياره للعناوين الشعبوية والقومية المؤيدة للمجموعات البيضاء من الأميركيين، فليس أمرًا عشوائيًا أيضًا.

يعاني النظام الأميركي من جملة ما يعانيه من مشاكل، ازدياد نفوذ رجال المال واللوبيات وتأثيرهم على السياسات، ويعترف الكثير من النواب والعاملين في الأجهزة الرسمية الأميركية بأن المال أفسد النظام. أما المشكلة الأكبر التي يعانيها المجتمع الأميركي - بالاضافة الى انقسامه الشديد - فهو عدم المساواة.

بالرغم من العديد من الأميركيين يشكون من عدم المساواة المتجذرة في المجتمع والنظام منذ قرون، ويعتبرون أن التمييز هو بشكل أساسي ضد الأميركيين السود، والمهاجرين غير الشرعيين، والاقليات المهمشة، لكن معايير عدم المساواة الجديدة والتي ضربت فئات جديدة من الأميركيين البيض، والتي سادت في العقدين الاخيرين وتفاقمت بعد الأزمة العالمية الكبرة 2008، فهي التمييز على أساس المستوى التعليمي، بعدما ضُرب الاقتصاد الاميركي بغياب الصناعة المحلية وهجرتها الى الخارج طمعًا بالربح السريع وسعيًا نحو اليد العاملة الرخيصة.

بتركيز الديمقراطيين على عدم المساواة، أغفلوا الطبقات الفقيرة والمهمشة من البيض الأميركيين، فأقاموا تحالفًا مع الاقليات العرقية الأخرى، وهو ما استطاع ترامب استغلاله بذكاء خلال حملته، وما زال مستمرًا بعناوينه الاساسية، وهو ما بدا واضحًا في خطابه في الكونغرس.

إذًا، تبدو المعركة التي يقودها ترامب وفريقه من ضمن "الدولة العميقة" وليس من خارجها. وما العناوين الشعبوية التي يطرحها سوى محاولة من جزء من هذه الدولة لتصحيح الأخطاء التي أرتكبها جزء آخر وأدت الى إضعاف الامبراطورية الأميركية في العالم. أدى سوء الادارات السابقة للولايات المتحدة، بخسارة حربين عسكريتين (أفغانستان والعراق)، بالاضافة الى إنهيار أسواق المال (2008)، ويبدو أن جزءًا من هذه الدولة العميقة يحاول القيام بحركة تصحيحية للنظام، تجعله يستعيد عافيته مستندين الى أفكار قومية شعبوية، تختلف في جوهرها عن الأفكار النيوليبرالية السابقة حول تشجيع العولمة وفتح الحدود الخ.

هل تنجح الحركة التصحيحية داخل النظام الأميركي؟

لا شكّ أن الصراع بين الجناح الجديد والحرس القديم، لن يبقي الولايات المتحدة كما كانت عليه في السابق، فإذا لم يستطع الطرفان الوصول الى تفاهم ما، فنكون أمام سيناريوهات ثلاث: إما أن تنجح الترامبية وتغير وجه أميركا الذي نعرفه، وأما أن تفشل مما يؤدي الى إسقاط هيبة الرئيس ومعه أميركا في العالم. وأما أن يستمرا بالقتال الى ما لا نهاية، فيكون مصير الولايات المتحدة مشابهًا لمصير الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي.