في أعقاب تحرير تدمر الأثرية للمرّة الثانية من أيدي وحوش الظلام، نرى حجم التدمير الهائل الذي أوقعوه في تلك المدينة التاريخية الغافية في حضن الصحراء المتوّجة بشموخ قلعتها. والسؤال هو لماذا تدمير المسرح الأثري في تدمر، ولماذا كلّ هذا الحقد على آثار مدينة عربية شمخت في عصر ملكتها زنوبية، وشكلت مركزاً حضارياً عالمياً للتبادل التجاري، والحضاري على طريق الحرير؟ والسؤال ذاته ينسحب على حلب، والرقة، ودير الزور، والموصل، ونمرود، ومقام النبي يونس، ومراقد الصحابي، وغيرها من المدن والمواقع التي تشكلّ فخر إرثنا الحضاري، وركائز عراقة هذه الأمة وتاريخها المجيد. ومن أجل الإجابة على هذا السؤال وغيره الكثير، لابدّ لنا من أن نتوقف عند الاستراتيجيات التي انهمك أعداؤنا في وضعها طيلة تاريخهم، والتي تحوّلت إلى برامج عمل، وأخذت طريقها إلى التنفيذ ولو بعد حين. ومرتكز أعدائنا في كل ما يقومون، هو يقينهم أن العرب لا يقرؤون من جهة ومخترقون لحد النخاع في معظم مرافق أنظمتهم من جهة أخرى، ولذلك فهم ينشرون خططهم الاستراتيجية دون خوف أو خشية أن يفتضح أمرهم أو أن تُتخذ إجراءات تحول دون تنفيذ خططهم. وللأسف هم محقوّن. فها هي استراتيجية ​اسرائيل​ لثمانينات القرن الماضي والتي كتبها "أوديد ينون" تُطبق اليوم بحذافيرها على الشعب الفلسطيني والأمة العربية دون أن يقرن أحد بين الخطط المنصوص عليها، وبين ما يجري لبلداننا العربية منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى اليوم. بل نقرأ أحداثنا بشكل مجتزأ، ونخوض معاركنا، ونحن متنافرون، الواحدة تلو الأخرى، ومن بلد إلى آخر دون أن نستجمع الصورة الكلية للأحداث كي ندرك موقع كل معركة في خريطة المعركة الشاملة

التي تفرضها القوى الغربية المعادية، والأنظمة الرجعية والعميلة لها على بلداننا تحت مسميات مختلفة وبذرائع شتى. فمن الواضح من استراتيجية ينون أن الفلسطينيين لم يكونوا أبداً الهدف الوحيد للخطط الصهيونية ولكنهم الهدف الأول لأن وجودهم كشعب ينفي جوهر قيام الكيان الصهيوني بل إن كل الدول العربية، وخاصة تلك الدول، تقول الاستراتيجية، ذات التوجهات القومية والمتسقة هي هدف حقيقي عاجلاً أم أجلاً. ذلك لأن الفكرة الأساسية لهذه الاستراتيجية، هي أن اسرائيل غير قابلة للحياة والاستمرار كدولة صغيرة في محيط معاد ولابدّ لها، إذا ما رغبت بضمان الاستمرار، من أن تصبح امبراطورية تسيطر على الإقليم، على الأقل فكرياً واقتصادياً إن لم يكن عسكرياً. ومن أجل هذا لابدّ لها من أن تعمل على تفتيت الدول العربية، من الداخل وأن تستغل الفروقات الأثنية والطائفية في كل بلد وتذكيها إلى أن تتحوّل دول المنطقة إلى دويلات متناحرة على أساس العرق أو الدين أو الطائفة. ومن أجل هذا لابدّ من البدء بتقويض الجيوش العربية الأساسية، والتي تُشكل، في سورية والعراق على وجه الخصوص، عنصر القوة الأساسية للدولة، ولذلك فإن حلّ الجيوش أو تدميرها في مصر، والعراق، وسورية، هو هدف سريع، بينما يبقى تقسيم هذه الدول إلى دويلات طائفية وعرقية، هو الهدف النهائي لإسرائيل. وتصرّ الاستراتيجية على أنه لابدّ من وجود دولة للأقباط في مصر، ولذلك نرى تركيز العصابات الإرهابية الوهابية الإسلامية المتشددة على تفجير كنائس الأقباط، ولابدّ من الخروج من أحكام اتفاقية كامب دافيد، وإعادة سيناء إلى إسرائيل في الوقت الذي سوف يصبح الأردن وطناً طبيعياً للفلسطينيين. في مراجعة الأحداث التي مرّت على أمتنا منذ الثمانينات وحتى اليوم نرى أن كل ما جرى على بلداننا يهدف إلى أن يسوق بلداننا في هذا الاتجاه ومازالت الأحداث اليوم في سورية، والعراق، والأردن، وسيناء، تؤشر في ذلك الاتجاه الذي نصت

عليها استراتيجية ينون. ولهذا فإن كلّ المسميّات من داعش إلى النصرة إلى الجيش الحرّ أو غيرها التي تتخذ الإرهاب الذي يضرب بلداننا في سورية، ومصر، والعراق، ونراه تارةً في سيناء وتارةً في الموصل، والرقة، ودير الزور، وتدمر، كلّه ينبع من استراتيجية واحدة تتخذ من البلدان الرجعية العربية المموّلة والمسهلّة أداة لها في نظرة شاملة وتحريك واعٍ وممنهج للأحداث. والمشكلة هي أن الأطراف المتضررة وهي هنا دولنا العربية، لم تجتمع يوماً لتقرأ هذه الأحداث قراءة متأنية متكاملة ولتوحّد الجهود باعتبار أن الواقع يؤكد أن الهجوم على تدمر، ونمرود، هو ذاته الهجوم على سيناء، والقدس، وأن الهدف النهائي هو إضعاف الجميع ومن ثمّ تحويلهم إلى مستخدَمين في معامل ودوائر الصهيونية الإقليمية التي تطمح وتخطط للسيطرة على الإقليم. وفي هذا الصدد فإن التوجه السعودي نحو تحريض العراق ضد إيران، وسورية، والمنطق التقسيمي الذي يطرحه النظام السعودي وخوض عدوان غاشم على شعب اليمن، ودعم الإرهاب المدمّر في سورية، ومصر، ولبنان، والعراق، كل هذا يصبّ في مصلحة الصهيونية في تنفيذ مخططاتها التي تستهدف العرب والمنطقة بمن فيهم هؤلاء الحكام السعوديون، والخليجيون، الذين يفرحون اليوم بخدمتها سراً وعلانية إلى أن تنقضّ عليهم وتستخدمهم حطباً لنارها الآثمة. إن التدمير الممنهج لمعالم حضارتنا وهويتنا وتاريخنا، هو خطوة على طريق تنفيذ استراتيجياتهم وخططهم أما معاركنا المنفصلة والمتباعدة فهي غير قادرة على تقويض خططهم ما لم تصبح المعركة واحدة، وبرؤية ومنهجية وتصميم وإدراك أن هذه المعركة على مساحة الوطن العربي هي معركة واحدة تتخللها أهداف قصيرة المدى ومتوسطة المدى وبعيدة المدى ولكنها أهداف واحدة، والمستهدف هو نحن العرب في كل أقطارنا وفي مستقبل أجيالنا وإن كان الجهل يمكّن أعداءنا من استخدام البعض من هؤلاء العرب كأداة أساسية في هذه المعركة، سواء من

خلال تحالفهم مع العثماني الذي يقضم أرضنا كالصهيوني تماماً أو من خلال تسخير أنفسهم وأموالهم وقواعدهم لتدمير اليمن، وسورية، والعراق، كخطوة أولى. أفلا يعقلون؟.