هو القدر اللئيم، لا بل هي إرادة الباري. لم يُمنَح خليل عون عشرين يومًا إضافيًا ليعانق ابنَه العماد. رحل تاركًا تلك الغبطة الى من حملته، الى من وضعته، الى من ربّته في منزلها المتواضع في سنّ الفيل. الى هناك وصل العميد المغوار جوزف عون عمادًا. الى هناك حيث صورة الرئيس ميشال عون تعانق جدارًا من أربعة في غرفة جلوسها الصغيرة التي غصّت بالأقارب والمحبين.

في الأمس غدا للبنان قائدُ جيش جديد. ولد عسكرُ العهد الجديد من رحم مرسومٍ كان الرئيس العماد أوّل من وقّعه واضعًا ثقته بحامل شهرته وعقيدته ووفائه له منذ أكثر من ثلاثة عقود.

الأب الروحي...

هو القدرُ اللئيم، لا بل هي إرادة الباري. يغيب الأب البيولوجي ليحضر الأب الروحي. يرحل خليل عون ليكون ميشال عون "بيّ الكلّ" المزكّي المبارك الداعم. هو كلامٌ تنضح به جدران سنّ الفيل حيث البيت الأبوي والعيشية الجزينية الجنوبية حيث التراب الأوّل والأخير. في البلدة البيروتية أقاربُ وأحبّاء عاشوا لحظة وصول العماد الجديد من قصر بعبدا الى المنزل حيث كان عناق ودموع وأمنيات، وفي بلدة الجذور احتفالاتٌ لم تهدأ منذ يومين. من اللواء التاسع في عرسال استدعِي العماد الشاب الأيفع في تسلسل قادة الجيش في التاريخ اللبناني. من رحم أمجادٍ جمّة سطّرها على أكثر من جبهة الى اليرزة التي تنتظر وعسكرها قائد العهد الجديد. بشطبة قلمٍ وبترقية بسيطة عيّن مجلس الوزراء العميد الركن المغوار جوزف عون قائدًا للجيش ليستهلّ العهدُ مشوار تعييناته بهذا المنصب الحسّاس الذي جعل للبنان وتاريخه عماد عون ثانيًا.

سندها وسند الوطن

"الله يحميه"... لا عبارة تفوق تلك التي تتفوّه بها شفتا أمٍّ خسرت شريك حياتها وما بقي لها سوى أولادها سندًا، فكم بالحريّ إذا كان ذاك السند هو سند الوطن برمّته، هو سند الشعب برمّته، ذاك الذي وضع ثقته في العماد جوزف عون في غير مناسبة وما خذله منذ أيام الاحتلال السوري الى الاقتتال الداخلي وصولًا الى معارك طرابلس وشراسة الإرهاب في عرسال. لم يكن الإرهاب أكثر شراسةً من عزيمة القائد الشاب الذي حصّن الحدود الشمالية ومنع تسلّل الإرهابيين الى الداخل. في عرسال كان عون وكلّ عسكريٍّ ألحِق بلواءٍ يترأسه أبطال الميدان.

جسمٌ مشظّى

لم يحُل جسد العماد الجديد المشظّى من معارك الأيام السود دون مواظبته على خدمة شعار "الشرف والتضحية والوفاء". لم تحُل تلك الشظايا وضغوط الحرب دون استمراريّة القائد الوفيِّ المغوار طبعًا وترجمةً. لا يختلف اثنان على شجاعة العماد جوزف عون، ولا يشكّك اثنان في كفاءته لدرجة أن بعضًا من عارفيه وأقربائه ينجرفون في عاطفةٍ مزدوجة عندما يتحدّثون عن تماهي شخصه وطباعه مع شخص الرئيس العماد ميشال عون، ومردُّ ذلك ليس فقط الى مرافقته في معاركه كقائد جيش، ولا الى الجذور الجزينية التي تجمعهما، بل الى تلك البزّة المرقّطة التي تختصر وطنًا. الى تلك البزة التي تبلورُ طباع قائدٍ شرسٍ عندما يتعلق الأمر بوطنه وناسه. ربما هي العاطفة المقرونة بصلةٍ عضوية، وربما هي حقيقة ما سيظهره العماد الجديد من محاكاة ونقاطٍ مشتركة مع الرئيس العماد في قيادته للمؤسسة العسكرية في أحلك الظروف.

ترابٌ يخرِّج

كما في سنّ الفيل كذلك في العيشية الحالمة. هو ذاك التراب الذي قاسى احتلالًا عدوًا يخرّج اليوم قائدًا وطنيًا به يفخر أبناء البلدة والقضاء برمّته. على طول الطريق الى العيشية الجزينية يبدو العماد جوزف عون بطل الهواء والأرض وكلّ لسان: تستحقّ جزين الوفية للعماد الأول عمادًا ثانيًا. هي حال لسان الجميع. تلك الغبطة المُتاحة للعيشية والجوار وحتى القرى الحدودية، لم تكن كذلك بالنسبة الى عاصمة القضاء مدينة جزين التي سرق منها رحيل العقيد السابق في الجمارك جوزف سكاف نطفة فرحها وحرمها من عرسٍ بديهي لحساب عرسٍ آخر زُفَّ فيه بمواكب حاشدة العقيد سكاف. هنا عرسٌ وهناك عرسٌ، وما بينهما سلكٌ واحد يشبه الحياة على الكرة الأرضية: يولد قائدٌ آدمي ليرحل آخر آدمي. خارج سرب الاحتفالات غرّدت جزين أمس احترامًا لجميلها البارّ: لا مدارس، لا مؤسسات عاملة، لا شيء سوى قرع الأجراس والحزن. هي أيام لتستفيق المدينة من صدمتها وتعود الى رشدها وتدرك أن قائدًا جديدًا للجيش اللبناني ولِد في جوارٍ من جواراتها.

حمل كلّ شيء...

هكذا إذًا، حمل العماد جوزف عون شظايا 13 تشرين، حمل كلّ الوفاء والحبّ للعماد عون الأول وقبله للمؤسسة العسكرية التي خدم فيها والده على السواء وكان سببًا من أسباب دخوله الى المدرسة الحربية، حمل كلّ ما مُنِح من ثقةٍ شعبيةٍ وتوجّه بها كلّها الى القصر الذي منه خرج ذات يوم عمادٌ وأمَّه رئيسًا. هو ببساطةٍ ليس قائدًا عاديًا. هو قائد تسوية العصر، تسوية القرن. هو قائدُ عسكر العهد الجديد الذي أمامه وطنٌ وشعبٌ يحبّان وخلفه عدوّان يغدران.