حلّت الذكرى الـ40 لاغتيال مؤسّس الحزب التقدمي الاشتراكي كمال جنبلاط لتشكّل محطّة مفصليّة جديدة في تاريخ قصر المختارة ومسيرة آل جنبلاط السياسيّة، فهذه المناسبة التي حاول البعض حصرها بالردّ على السِّجال الدائر مؤخّراً على خلفيّة تشكيل مجلس الشيوخ ورئاسته، جاءت أعمق وأبعد من مجرّد تفصيل سياسي أو قانون انتخابي، فالنائب وليد جنبلاط الذي يتقن التقاط الإشارات السياسيّة عرف مجدّداً كيف يختار التوقيت المفصليّ والحسّاس، ليعلن عن انتقال الزعامة الجنبلاطيّة إلى نجله تيمور، وهنا يكمن بيت القصيد، فجنبلاط الذي ورث العباءة المضمّخة بدماء والده قبل أربعين عاماً، ألبس نجله كوفيّة فلسطين بما تحمله هذه الكوفيّة من رمزيّة، وهذا ما يجب التوقّف عنده.

فجنبلاط أراد القول إنّه يُحمّل نجله تيمور نهج كمال جنبلاط النضالي وإرث وليد السياسي، وبذلك يكون قد رسم لنجله درب مسيرته السياسيّة التي تبدأ بفلسطين، والوقوف مع كلّ من يدافع عنها وفقاً لجنبلاط الأب، وبذلك يكون جنبلاط قد حسم موقع نجله مسبقاً لقيادة دفّة الاشتراكي باتجاه شواطئ المقاومة على اختلاف انتماءاتها المدافعة عن فلسطين. وهذا ما يمكن اعتباره إعادة تموضع جديد وأخير من قِبل وليد جنبلاط، فهو أراد لنجله أن يكون ضمن الخطّ الذي ناضل من أجله كمال جنبلاط الذي حمل فلسطين وقضيّتها، وهذا يعني أنّ الاشتراكي بقيادة تيمور لن يعود إلى تموضعات الـ2005 وما تلاها… وصولاً إلى أيّار من العام 2010، والتي وصفها جنبلاط الأب في فترة سابقة بـ«لحظة التخلّي».

وربما هناك من يسأل بعد كلام جنبلاط المقتضب، والذي جاء ليختصر مسيرة سياسيّة عن المرحلة المقبلة في تاريخ الزعامة الجنبلاطية، وهل ستُترجم التزامها بفلسطين بالعودة إلى الخيارات النضاليّة الحقيقية؟ فهل ترك جنبلاط الأب لنجله تيمور الباب مفتوحاً أمام تحديد العلاقة مع مختلف القوى السياسيّة في لبنان؟ وهل يعني وضع كوفيّة فلسطين على كتف تيمور أنّه ترك له إرث علاقته المأزومة مع دمشق، أم أنّه أرسل إشارة إيجابيّة إلى سورية من خلال إعلان التزامه قُبيل اعتزاله بالعلاقة مع كلّ من يحمل لواء فلسطين، خصوصاً أنّ سورية تدفع من خلال الحرب التي تدور رُحاها على أرضها منذ ستّ سنوات ثمن التزامها بفلسطين وقضيّتها، فهل تكون فلسطين القاسم المشترك بين الزعيم الاشتراكي الشاب ودمشق لاستعادة تلك العلاقة التي فُقدت مع والده قبل ستّ سنوات، عندما انطلقت شرارة الأزمة السورية، ومسارعة جنبلاط الأب إلى حسم خياراته في الضفة المناوئة للنظام وتشبيهه معركة حمص بمعركة ستالينغراد، وما تلا ذلك من مواقف لجنبلاط قضت على أيّ أمل لاستعادة العلاقة مع القيادة السوريّة؟! وعليه، ففي حال استعاد تيمور هذه العلاقة الجيّدة مع دمشق، فذلك سينعكس مزيداً من الاستقرار في العلاقة والتحالفات السياسيّة بين الاشتراكي وقوى المقاومة في لبنان بشكلٍ عام، وفي الجبل بشكلٍ خاص، حيث البيئة الدرزيّة في الضفّة المقابلة لخيارات جنبلاط السياسيّة، لا تزال تحافظ على الثوابت والخيارات القوميّة التي يشكّل أبناء طائفة الموحّدين الدروز في لبنان والشام جزءاً أساسيّاً منها.

إذاً، جملة من التساؤلات والألغاز السياسية رُسمت في الأفق، والتي لا يتقن فكّ شيفرتها إلّا وليد جنلاط نفسه، فهو الذي يعرف جيّداً متى تحين اللحظة المناسبة لاتخاذ الموقف المصيري، فكيف إذا كان بحجم تسليم نجله إرثه السياسي بعد مسيرة زاخرة بالانتصارات والإخفاقات وفقاً لكلّ حدث بعينه! لكنّ الثابت أنّ ذكرى كمال جنبلاط بحضورها السياسي رسمت ملامح المرحلة المقبلة من عمر الزعامة الاشتراكية، والأيام المقبلة ستكون كفيلة بتوضيح خيارات تيمور جنبلاط الممهورة بختم وليد جنبلاط.