نستمرّ في لبنان،وكأننا في بلد لا دستور فيه أو خياراً أو قراراً. كلّ يريد دستوراً وقوانين على مقاسه ومقاس طائفته ولربّما عائلته كما يريد علماً ونشيداً وحزباً وسلاحاً وإذاعةً وتلفزيوناً وجامعة تحمل إسم عائلته. هكذا يبقى مشهد الممارسة السياسية، مشدوداً بين «جمهوريات» ثلاث:

جمهورية الميثاق 1943 المنتهية بقوة وفعالية لكنها عالقة ومقيمة في وجدان البعض، وجمهورية الطائف 1990 التي أقرّهاالبرلمان اللبنانيبعدما أنهكتنا الحروب القاسية وشاخ ممثّلو الشعب لكثرة ما جدّدوالأنفسهم لمن يتذكّر، ولم يتمكّنوا بعدها من تطبيق دستورهم الجديد الملفوظ والخاضع لضغوط الخارج.وتعزّزتالجمهورية الثالثةفي النزف اليوميوالهجرةً الفعّالة نحو عواصم العرب والعالم، حيث نعثر على الجمهورية في الخارج لا في الداخل.

لم نتمكن مندستور الطائف، ولم تتكرّس التجربة في السلوك السياسي. ولم نصلقطعاًمستوى فهم فصل السلطات وتعاونها وتكاملها بالمعنى الوطني لا المذهبي. ويبدو بعض سياسيّي لبنان مفتونين بتلك الجمهورية الثالثة متجاوزين بقايا الجمهوريّتين منذ صدور القرار 1559 الذي طرح منذ الأساس بكونه يفضى بنا إلى جمهوريات جديدة أو «أوطان جديدة»أو القرار 1701 في أعقاب حرب إسرائيل ال2006 وصولاً الى الألسنة التي تشيع خرائط الفدرلة والتقسيمات في الأرجاء بعد "ربيع العرب".

يستحيل على المرء أي يرتدي بذلات ثلاثة في وقت واحد. يستطيع أن يبدّل ويغيّر ويفتكر، لكنّه قطعاً يجب أن يقرّر كي لا يداهمه العراء. مشهد مخيف يعيشه اللبنانيّون خائفين من ألّا يجدوا مسماراً يعلّقون فوقه أحلامهم في الإنتظارات وإستقرار الدستور. استهلكوا العقود الأخيرة من أعمارهم متلذّذين بانتظار التواريخ والمحطّات المتلاحقة التي كانت يأكل بعضها بعضاً من دون الفرج النهائي الذي لم يصل. صعدوافي أكثر من «بوسطة» منذعين الرمانة في ال1975 التي عادت بعض الألسن بالتهويل بها،وصعدوا في طائرة نحو الطائف ثمّ نحو الدوحة ولم يشعروا بأهوال العبور القاسي لما يعيشونه اليوم سياسيّاً وإقتصادياً وكأنهم فوق مضيق برمودا.

وإذا كان الخوف ثقيلاً ومبرّراً من فقدان ما ارتضوه أو اعتادوه من فتات السلطات أو بقاياها، وهروباً من حروب متوقّعة خبروها أو مناوشات داخلية سئموها أو اغتيالات متجدّدة يئسوا منها أو انفجارات شبعوها، فإنّ الانتخابات البرلمانية تتقدّم بإستحالتهاوكأنهاتنسف الديمقراطية،فتعثّر المبادرات والأفكار في مشاريعمستعصية على التغيير. ومع أنّهوصل الجنرال ميشال عون الى بعبدا وتخالطت الأحزاب في حكومة، لكنّ البلاد بقيت غارقة في التجاذب والجدال الأجوف و«القتال» الإعلامي والسياسي، والتهديد بالفراغ وفشل التفاهمعلى قانون للانتخابات البرلمانية.

لماذا هذا الكلام؟

لتجدّد الخوف عينه الذي عايناهولملاحظات وأسئلة تبرّر هذا الكلام:

لأنّ الطائف، ولو أنّه صار دستوراً لكنه لم يتساوق في التطبيقلعلل المذهبية.بقي المضمر أقوى من المعلن، ولأنّ الطائف وُلِد أساساً في تونس، عندما اختار العرب المغرب والجزائر والمملكة العربية السعودية كلجنة ثلاثية عربية عليا تساعد على اتفاق يخرج لبنان من حروبه العبثية اللامنتهية آنذاك.

لماذا هذه الدول العربيّة بالذات؟

لأنّ للمغرب نبرة إقليمية واسعةومهمّة في المجال، وللمملكة العربيّة السعودية حضور وازن في الرعاية والإستضافة والتطبيق ، ولأنّ الجزائريدغدغ الثوريين في لبنان وهي تحمل فوق زندها وشم المليون شهيد.ولأنّ أميركا كانت تدحرج التاج عن رأس إيران، ليتدفّق تنافرالمسلمين من خلف السدود الكثيرة.وكانت النتيجة نفي قائد الجيش ميشال عون إلى باريس ، وتطيين السجن الجاهز للدكتور سمير جعجع ، ولفلفة أوراق الطائف ومحاضره، فقد وضعنا دستوراً جديداً بالاسم. يبدو أنّ إماطة اللثام عن المستور من مناقشات السياسيين اللبنانيين في الطائف،يفصح عن هذا الكمّ التاريخيّ من اللامقال السياسي والإجتماعيوالطائفي والحافل بالتشظّيات التي نعيشهاونلمسها ونشهدها اليوم وكلّ يوم. كان شيوخ الطائف من البرلمانيينيخشون كشف صراعاتهم أمام الأجيال، لكنّ العيوب كلّها إنكشفت قبل خروج السوري وبعده. يغيب الخطاب الوطني الصريح وتغيب الحقائق المعلنة تطلق في الخفاء وشوشةً بما يدمغ مستقبلنا بالإلتباس أو الخوف المثقل بالإنصراف الى تأمين المصالح الشخصية والطائفية والازدواجيات، وكأنّ الوطن وديعة قابلة للنهب حتّى التفريغ ثمّ للإقتسام الكامل والبحث عن الجمهورية الثالثة بمن بقي في الوطن أو حضر.

قد يكون من الضروي نشر مخطوطة أمامي بعنوان دستور «الطائف في عامه الثالث» وهوعنوان المؤتمر الصحافي الذي عقدته في23/10/1992 وسحبت وقائعه وخلاصاته من النوابوالسياسيين الذين ذيّلوا وثيقة الطائف بتواقيعهم.

كيف؟

قمت بالتعاون مع مجموعة من طلاّبي الإعلاميين بتدريس اتفاق الطائف كمادة تخرج جامعي، فوقفنا في مقابلات على آراء أهل الطائفونخبة من الفعّاليات السياسية والروحية. وجاءت خلاصة الآراء الرفض العارم للطائفحتّى من الذين ما زال بعضهم في البرلمان وقاتلوا من أجل الطائف.لم نجمعهذه المقابلات أساساً للنشر لكنها للجامعة وتبرز التناقض والازدواجية اللبنانية بين المواقف العلنية والسرّية.

مجدداً لماذا هذا الكلام عن الطائف؟

حتماً، لأنّ دستور الطائف منذ ولادته تشوّهت مفاصله في القناعات والممارسات، واليقظة المسيحية الحية والمتجدّدةوالدائمة للميثاق الوطني أو للجمهورية الأولى،مقابل الرعب الفعلي من إملاءات الغربالمتواترة الجديدة التي تظهر ارتجالية فاقعة في فهم التفاصيل. يبدو لبنان مختلط الملامح قديمها وجديدها وهو وطن ينتظر العرب بين قوسين، على الرغم من التطمينات الأميركية والبريطانية والفرنسية والسعودية وغيرها الكثيرة، التي تجعلنا نغطّي عرينا بقناعة أننا مقاطعة جميلة صغيرة أو قطعة من الغرب.

قد نكون، من حيث الشكل، قطعة حسنة مغرية من الجغرافيا ، وقد لا يجد الغرب العشق لضعفنا كقطعة في «بازل» الشرق الأوسط تناسب ثقافته وعاداته واسترخاء جسده أفضل من شواطئنا (وأميركا تعشق المكوث قرب الشواطئ والمطارات)، وهو بهذا يتلاقى بسهولة مع دول الخليج وغيرها من الدول الكبيرة والصغيرة التي تحفظ أسماءنا عن ضهر قلب، لكن كلّ هذا لم ولن يؤلّف وطناً آمناً يعيد النظر والأبناء والإستقرار.

قد يؤلّف وطناً أو جمهورية ثالثة مؤقّتة حائرة، أو يفضي بنا إلى دستور جديد غير قابل للتطبيق،لكن كيف تصمد الدساتير والأوطان أمام قوة الدول العظمى ومخططاتها، وهي التي لم تصمد أساساً في ألسنة أهلهاوهم لم يخرجوا نحو التصالح مع المستقبل بعد؟