ليس على الرئيس ميشال عون أن يشكر اللبنانيين، بل على اللبنانيين والعرب أن يشكروا الرئيس عون على حُسن خطابه مبنًى ومعنًى في القمة العربية. ليس على الرئيس عون أن يُثبت أن كلّ كلمة قالها تعبّر عن وجدانٍ عربي سئم جَور العهود، بل على اللبنانيين والعرب أنفسهم أن يلتمسوا في خطابه صُدق القضيّة تعبيرًا وقصدًا.

هي ليست كذبة أوّل نيسان، بل هي حقيقة أول نيسان. ليس التعاطف الشعبي المخيف مع الرئيس عون حتى من قبل خصومه في السياسة مردُّه الى زلة قدمه فحسب. يخطئ من يظنّ ذلك متجاوزًا خطابًا أجاد عون صوغه وتلاوته غير آبهٍ بالحادثة التي ألمّت به قبيل دقائق من موعد تسلُّمه الكلمة. أجاد عون فنّ الخطابة قولًا وفعلًا من خلال 10 دقائق حاول بعضهم تجاوزها عبثًا بدافع الملل فلم يفلح. جذب عون الآذان العربية واللبنانية، استفزّ بعض الضمائر الغافية، استنهض بعض الهمم الغافية، استحقّ بعض دعاءات الخير من الأفواه المتعجّبة من رئيسٍ يجرؤ في أول مشاركة له في محفل عربي على قول ما قاله.

منتصرًا لا منكسرًا

خرج عون منتصرًا لا منكسرًا من الجامعة العربية. خرج ببيانٍ ختامي يستلهم من كلمته الكثير بعدما خجل مدوّن التوصيات من تجاوز بنودٍ إنسانية رئيسة تحدّث عنها الجنرال. كان على عون أن يتماهى مع شخصه، أن يكون متصالحًا مع ما يفكّر فيه من خلال خطابٍ يقول مقرّبون إنه صاغه بنفسه أو كانت له اليد الطولى في وضع خطوطه العريضة. استحق عون التهاني بخروجه منتصرًا على عيون شعبه والعرب. استحقّ أن يخرج رافع الرأس ببيانٍ ختامي حفظ حقّ لبنان في مقاومة العدوّ، وتمنّع عن التصويب على حزب الله رغم أنه مُدرَج على لوائح الإرهاب الخليجية. انتزع عون ببساطة من العرب حقّ المقاومة، انتزعه رغمًا عن أنوف الجميع بكلمةٍ غيّبت مشهدية معهودة في القمم السابقة أبطالها رؤساء غافون على كراسيهم ومستشارون صغار يصغون ويدونون ليخبروا رؤساء بعثاتهم وبلادهم بما في رؤوس الأقلام بعد استفاقتهم. انتزع عون تضامنًا مع لبنان بالقوّة، واعترافًا بكل مكوّناته بالقوّة.

جرحٌ نازف

وضع ميشال عون الإصبع على الجرح العربي الشرق أوسطي النازف والذي لا يعرف الى الختمان سبيلًا. تكلّم باسم كلّ مواطن عربي وهو ما يفسّر حجم الأصداء العربية التي وصلت الى أذنيه وآذان مستشاريه ومعاونيه. أثبت ميشال عون، الرئيس اللبناني المسيحي الأوحد في الدول العربية وجامعتها، بأنه رئيسٌ عابرٌ للجغرافيا والمسيحية اللبنانيّتين الى زعيم عربي ومسيحي مشرقي، يُحرج العرب في دُورهم ودَورهم، ويتّهمهم بالتخلّي عن شعوبهم وبعدم الالتفات الى أوجاعهم المزمنة.

المبادرة لا الاستجداء

لم يكن غريبًا بأن تشيد الصحف العربية وعلى رأسها اليمنية بخطابٍ ملحميٍّ للرئيس اللبناني، حدّ مجاهرة وزير التعليم اليمني بجودة الخطاب ووصف العماد عون بأنه الرئيس العربي الوحيد الذي يخاطب الضمائر الكبرى وينهل من وجع الناس ومعاناتهم كلماتٍ كتبها بنفسه لا بل أصرّ على كتابتها بنفسه بلا معونة. خطابٌ استثنائي لرجلٍ استثنائي رسم نهجًا جديدًا للبنان عنوانه الأبرز: المبادرة بعدما كان الوطن الصغير دائمًا يستجدي المبادرات مع الرؤساء السابقين. أراد ميشال عون ببساطةٍ أن “يبيّض وجوه” اللبنانيين على ما أسرّ لمجموعةٍ رافقته في الطائرة. أراد أن يستحق عنوانًا في صحيفة عربية يقول: عون لبنان بات عون العرب. متأثرًا بدا الرجل خلال تلاوته خطاب الدقائق العشر لدرجة أن أحدًا من الحاضرين أو حتى الصحافيين في غرفهم الخاصة لم يجرؤ أن يغفو أو أن تغفل عينه أو أذنه عمّا يقوله الرئيس اللبناني. صمتٌ رهيبٌ ساد القاعة العامة وتلك التي احتضنت صحافيين من شتى الدول العربية. النبرة، تقطيع الكلام، النظرات الثاقبة، التنهّدات... كلّ شيءٍ بدا وكأن الخطاب نابعٌ من وجدان رجلٍ مشرقي عربي خائفٍ على ما تبقى من أرض، على من تبقى من شعوب مسيحية وإسلامية.

لا غفوات!

في القاعة الصحافية المجاورة كثر الهمس عن خطابٍ أجمع الصحافيون على أنه “تاريخي” لدرجة أن التصفيق كان بطل المكان خلافًا لغفواتٍ صحافية أشبه بقيلولة محارب في الخطابات التملّقية الأخرى التي تعجّ “بالكليشيهات” والصور النمطية والعبارات التآمرية. هكذا إذًا، فعلها ميشال عون. نجح في مُراده. “بيّض” وجوه اللبنانيين و”كتّر”، لا بل بيّض وجوه العرب

المتخاذلين الذين ينظرون الى مرايا ذواتهم وبالكاد يجرؤون على تمتمة تساؤلٍ موحّد: “كيف نجح ذاك المسيحي المشرقي بين ثلةِ رؤساء وملوك وأمراء مسلمين في ملامسة الوجع العربي المسيحي والإسلامي على السواء؟