تمامًا كما "ينقلب السحر على الساحر"، لا يخفى على أحد أنّ المؤتمر التأسيسي، الذي كان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله من بين من طرحوه على الطاولة مع بروز أزمة الفراغ الرئاسي، تحوّل إلى "مضبطة اتهام" للحزب، تارةً لأنّه يريد المسّ ب​اتفاق الطائف​، وطوراً لأنّ مشروعه الحقيقي هو استبدال المناصفة بالمثالثة، كما قيل.

بهذه الخلفيّة، نجح "تيار المستقبل" في تحويل هذا المؤتمر إلى "فزّاعة" وبالتالي إلى "دفنه في مهده"، انتصاراً لاتفاق الطائف، "المقدّس" وفق المعايير "المستقبليّة". إلا أنّ هذه "الفزّاعة" عادت على ما يبدو، وبقدرة قادر، إلى دائرة الضوء في الأيام القليلة الماضية، ولكن بمهمّةٍ جديدةٍ لا تقلّ خطورةً، ألا وهي التمهيد للتمديد الثالث للمجلس النيابي وتبريره!

سيناريو "تهويلي"...

قبل أيام، خرج رئيس المجلس النيابي نبيه بري بكلامٍ لافتٍ شكلاً ومضمونًا، أعاد فيه الحديث عن المؤتمر التأسيسي، من باب إمكانية أن يقود الفراغ النيابي، فيما لو حصل، إليه، باعتبار أنّ النظام اللبناني نظامٌ برلماني، فإذا ذهب البرلمان "لا تبقى دولة ولا مؤسسات، لا مجلس ولا حكومة ولا رئاسة جمهورية ولا أيّ شيء".

وإذا كان بري، الذي حرص على القول أنّه ليس سعيداً ولن يكون سعيداً أبداً بالتمديد، حسم الموقف بقوله أنّ "المؤتمر التأسيسي خرابٌ للبلد"، فإنّ النائب ​نقولا فتوش​ استكمل "السيناريو"، عبر "التهويل" من مؤتمرٍ تأسيسي قد يشارك فيه "التكفيريّون"، إذا ما عُقِد في ظلّ وجود مليون ونصف مليون نازح سوري، وفي هذه الإشارة أكثر من دلالةٍ أراد الرجل إيصالها بطبيعة الحال.

قد يكون مستغرَباً، بالنسبة لكثيرين، أن يخرج بري، حليف "حزب الله" الاستراتيجي، وفتوش، العرّاب القانوني للتمديدين الأول والثاني للمجلس، بالتكافل والتضامن مع مختلف القوى السياسية، بمثل هذا الموقف من مؤتمرٍ، كان الحزب من أول الداعين له عن قناعة، قبل أن يصرف النظر عنه، مكرهًا، بفعل الطنّة والرنّة اللتين أحاطتا به، وحرفتاه عن بوصلته الحقيقية.

ولكن، ولأنّ الكلام يجب أن يُقرَأ في سياقه، ومن دون اجتزاءٍ من هنا وهناك، وعلى طريقة "الغاية تبرّر الوسيلة"، يمكن الاستنتاج أنّ هذا التهويل، وإن كان ظاهره الذمّ بالمؤتمر التأسيسي وتداعياته المحتملة، إلا أنّ باطنه لا يحمل سوى التمهيد للتمديد للمجلس النيابي، الذي يُطبَخ على نارٍ حامية، بمعزلٍ عن كلّ ما قيل ويُقال وسيُقال في الآتي من الأيام. ولعلّ المطالعة الدستورية التي خرج بها النائب نقولا فتوش في جلسة المناقشة العامة للحكومة في ساحة النجمة حملت إشاراتٍ واضحة في هذا الاتجاه، وإن بقيت كامنة خلف السطور، علمًا أنّ كثيرين توقّعوا أن يتوّج مطالعته بإخراج "قانون التمديد" من الجيب، باعتبارها تضمّنت كلّ الأسباب الموجبة لمثل هذا القانون.

هل دقّت الساعة؟

عمومًا، إذا كان أركان الطبقة السياسية نجحوا في تحويل المؤتمر التأسيسي سابقاً إلى "فزّاعة" لعدم المسّ بالنظام اللبناني، رغم كونه هشًا، كما قد ينجحون اليوم في تحويله إلى "فزّاعة" لتغطية عجزهم وفشلهم، وتبرير لجوئهم إلى التمديد لأنفسهم بكلّ وقاحةٍ للمرّة الثالثة على التوالي، فإنّ هذا لا يعني أن "الفزّاعة" قد لا تتحوّل إلى "حقيقة" في يومٍ من الأيام، قد لا يكون بعيدًا، إذا ما استمرّت الطبقة السياسية باتباع النهج نفسه في مقاربة مختلف الاستحقاقات.

وفي هذا السياق، هناك وجهة نظر لا يزال أصحابها يتمسّكون بها، رغم كلّ شيء، وتقول بأنّ لا حلّ للأزمات اللبنانية المتشعّبة سوى بتغييرٍ كامل في هيكلية وبنيوية النظام، وهذا لا يمكن أن يتحقّق سوى بمؤتمرٍ تأسيسي، وإن كان بالامكان استبدال "المسمّى"، بعدما بات منبوذاً لدى أكثر من شريحة لبنانية، بفعل ما يمكن وصفه بـ"غسيل الدماغ" الذي حصل على مدى الأشهر الماضية، وأوحى بأنّ أيّ نقاشٍ في الصيغة اللبنانية الحاليّة هو بمثابة "لعب بالنار".

وعلى الرغم من أنّ "حزب الله" صرف النظر عن هذا المؤتمر في العلن، ولم يعد يشير إليه لا من قريب ولا من بعيد، وعلى الرغم من أنّ "حزب الكتائب" تراجع هو الآخر عن تبنّيه للفكرة تحت مسمّى آخر هو "تطوير النظام"، الذي يذكر اللبنانيون أنه شكّل بداية "الافتراق" بين رئيس الحزب النائب ​سامي الجميل​ وحلفائه السابقين في "14 آذار"، وخصوصاً رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ ومن خلفه رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، فإنّ اعتقاداً يسود بأنّ نسبة الداعمين "المستترين" للمؤتمر ليست بقليلة، وهي ليست محصورة أبدًا بفريقٍ أو اثنين، بل إنّه لم يعد خافياً على أحد أنّ كثيراً من معارضي هذا المؤتمر والمهوّلين ضدّه في العلن كانوا يدفعون باتجاهه في السرّ، ولا سيما في الغرف الضيّقة.

وتكاد الأزمات المختلفة التي مرّ بها البلد خلال السنوات القليلة الماضية تكفي لتأكيد وجوب حصول تغييرٍ جذري، أقلّه من الناحية الدستورية والقانونية، في نظامٍ يسمح مثلاً بحصول فراغٍ في سُدّة الرئاسة إلى ما شاء الله، بحجّة "حقّ" النواب بحضور أو عدم حضور الجلسات المخصّصة لانتخاب الرئيس، ويعطي رئيس الحكومة، بعد تكليفه، مهلة "أبدية"، إن أراد، لتشكيل الحكومة، والأنكى من هذا وذاك، يعطي النواب الحقّ الحصري في تشريع قانون انتخاب قد يطيح بمقعدهم، ما يجعل الإصلاح على هذا الصعيد من سابع المستحيلات.

تنجيم أو تبصير؟

"رافضو المؤتمر التأسيسي هم الذين يدفعون في اتجاهه لأن اعتراضهم على السلة المتكاملة يقود الى الفراغ الذي يساوي حكما المؤتمر التأسيسي". هذا الكلام، الذي قاله رئيس المجلس النيابي نبيه بري قبل أشهر، وتحديداً في تموز من العام الماضي، يوحي وكأنّ الرجل كان يدرك سلفاً إلى أين تتّجه البلاد، إلا أنّ أحداً لم يكترث.

لا شكّ أنّ ذلك صحيح، ولكن، أبعد من كلام بري وتفسيراته وتأويلاته، وأبعد من بقاء "المؤتمر التأسيسي" فزّاعة، ولو تبادل السياسيون الأدوار في توصيفها، فإنّ الشعب الذي كان يدرك، منذ تموز أيضًا، أنّ التمديد الثالث للمجلس آتٍ لا محالة، يدرك أيضًا أنّ زمن المؤتمر التأسيسي آتٍ أيضًا، ولو لم تدقّ ساعته بعد، وهذا الأمر لا يحتاج لتنجيمٍ أو تبصير...