نقطة سوداء أخرى سُجّلت على خطّ "التفاهم" بين "التيار الوطني الحر" و"​القوات اللبنانية​" في انتخابات ​نقابة المهندسين​، التي انتهت بهزيمةٍ مدويةٍ للسلطة مجتمعةً، و"التيار" و"القوات" في صلبها، من خلال فوز مرشح لائحة "نقابتي" المستقلّة، الآتية من رحم "بيروت مدينتي"، بمركز النقيب.

وفي حين فتحت النتائج جدالاً في الداخل اللبناني حول ما إذا كان ما حصل يعبّر عن توق اللبنانيين الحقيقيّ نحو التغيير، أم أنّه مجرّد انعكاسٍ لصراع الحلفاء فيما بينهم، وقد استفاد منه ​المجتمع المدني​، فإنّ الخلاصة التي لا يمكن لأحد تجاهلها هي أنّ التحالف بين "التيار" و"القوات" ليس أبدًا في أحسن أحواله، مهما حاول البعض تجميله وتنقيحه بشتّى الوسائل، وعلى المعنيّين أخذ العِبَر قبل فوات الأوان...

"قلوب مليانة"

بدايةً، لا شكّ أنّ انتخابات نقابة المهندسين، والتباينات التي أحاطت بها بين "التيار" و"القوات"، فضحت بشكلٍ ملموس الكثير ممّا كان مستتراً في العلاقة بين الجانبين في الآونة الأخيرة، خصوصًا أنّ مجريات المعركة أكّدت بما لا يقبل الشكّ أنّ القاعدة "القواتية" لم تصوّت لمرشح "التيار" لمركز النقيب ​بول نجم​، بعدما انسحب مرشح "القوات" ​نبيل أبو جودة​ لصالحه ظاهريًا، وخير دليلٍ على ذلك الفارق الشاسع في عدد الأصوات بين المرشح المذكور ومرشحة "القوات" لعضوية مجلس النقابة ميشلين وهبة مثلاً، والذي تخطّى الألف صوت، ما يدلّ على عمليات تشطيبٍ حدثت.

وبمعزَلٍ عمّا إذا كان تصرّف القاعدة "القواتية" أتى عفويًا وغير منظّم، أم أتى انسجامًا مع توجيهاتٍ من تحت الطاولة، فإنّ الأكيد أنّه عكس "امتعاضاً قواتياً" لا يجوز تجاهله أو التقليل من شأنه، خصوصًا أنّ شعورًا ينتاب "القوات" منذ فترةٍ غير قصيرة بأنّها أعطت "التيار" حتى الآن أكثر بكثير ممّا أخذت، وأنّ "العونيّين" يريدون الاستيلاء على كلّ المناصب في الدولة من دون تقديم أيّ شيءٍ في المقابل.

بهذه الخلفيّة، يمكن الحديث عن "قلوب مليانة" بين "التيار" و"القوات" لا تكفي الجمل الإنشائية الرنّانة في إخفائها أو التغطية عليها، ولو بات الجانبان يتفوّقان على بعضهما البعض في صياغتها بدرجة امتياز، باعتبار أنّ "الخلل" الحاصل بات أكثر من واضح، ويستوجب إعادة نظر مسؤولة وجديّة من الجانبين تفاديًا لتداعياته الكارثية عليهما، باعتبار أنّ التراكمات، التي بدأت أصلاً تصبح ثقيلة، قد تطيح بالتحالف حتى قبل بلوغه الاستحقاق الأهمّ، أي الانتخابات النيابية.

وإذا كانت المعارك "الافتراضية" التي نشبت في عطلة نهاية الأسبوع بين "التيار" و"القوات" برهنت مرّة أخرى على أنّ التحالف "العوني القواتي" لا يبدو متيناً على الإطلاق، بل إنّه قابلٌ للاهتزاز عند أصغر مفترق طريق، فإنّ استعادة معظم الاستحقاقات التي حصلت مؤخرًا لا توصل إلا إلى هذه الخلاصة، وإن أصرّ البعض على "التعامي" عليها، من الانتخابات البلدية التي عمل فيها الطرفان على "تجميل" اختلافهما أكثر ممّا عملا على "توحيد" لوائحهما، إلى الاستحقاقات الحكومية التي لم يتّحدا في معظمهما، من دون أن ننسى افتراقهما "الشاسع" في السياسة وفي الاستراتيجيا، خصوصًا إزاء لعبة المحاور التي تضرب المنطقة ككلّ، ولا يمكن أن ينأيا بنفسيهما عنها.

"بروفا" ورسائل...

عمومًا، وعلى الرغم من كونها في المبدأ انتخاباتٍ نقابيّة لا أكثر ولا أقلّ، إلا أنّه لا يخفى على أحد أنّ السلطة والمعارضة، على حدٍّ سواء، تعاملتا مع انتخابات نقابة المهندسين على أنّها "بروفا انتخابية" بكلّ ما للكلمة من معنى، خصوصًا أنّها أتت في عزّ البحث بقانون الانتخاب، والتحضير لانتخاباتٍ نيابية توصَف بالمفصليّة، هذا إن حصلت.

ولعلّ طيف هذه الانتخابات بدأ يحضر في حسابات "التيار" و"القوات" بشكلٍ خاص، ليس فقط في طريقة مقاربتهما لقانونها وتنصّلهما من الكثير من الوعود التي قدّماها لحلفائهما، خصوصًا في ما يتعلق بموافقتهما على النسبيّة الكاملة، وذلك لإدراكهما أنّها لا تسمح لهما بالانتصار النوعي الذي يسعيان إلى تحقيقه على طريقة الاستئثار بالساحة المسيحية ككلّ، ولكن أيضًا، وقبل كلّ شيء، في العلاقة المتبادلة فيما بينهما، والتي يسودها الحذر والشكّ.

وفي هذا السياق، ليس سراً أنّ "القوات" أرادت، من خلال نقابة المهندسين، أن توصل رسالة لـ"التيار" بأنّ استمراره في سياسة الأخذ لسدّ "جوع السلطة" الذي ظهرت بوادره بقوّة لديه لا يمكن أن يبقى دون ردود فعلٍ، خصوصًا بعدما وصل إلى مسامعها أنّ لا نيّة لديه في إعطائها من كيسه في معظم المناطق المحسوبة عليه، من بعبدا إلى المتن مروراً بجزين، بذريعةٍ جاهزةٍ هي أنّ حلفاءه لن يصوّتوا لمرشحي "القوات"، وعلى رأس هؤلاء "حزب الله" الذي يلتزم بالتصويت لأيّ مرشحٍ لـ"التيار الوطني الحر"، ولكنّ التزامه "الأخلاقيّ" هذا لا يسري على حلفاء "التيار"، وخصوصًا "القواتيين" منهم.

وإذا كانت الرسائل "القواتية" وصلت موجعةً لـ"التيار" في نقابة المهندسين، فإنّ المطلوب الآن، ومن دون أيّ تأخير، هو تلقّف "الدرس" سريعًا وعميقًا، لأنّ الاكتفاء بالقول أنّ أحدهما لم يذب في الآخر، معطوفًا على التغنّي بالتحالف، كما حرص الجانبان على الفعل خلال الساعات الماضية، ليس الأداة المناسبة ليصمد ويستمرّ، إذا لم تتوافر مقوّمات ذلك، وهو ما يتطلب ربما إعلان نيّاتٍ من نوعٍ آخر، يتجاوز النظريات إلى السلوك على الأرض، وهنا بيت القصيد...

بداية التغيير...

أبعد من الدروس والعبر التي على "التيار" و"القوات" أخذها سريعًا، تفاديًا لانتهاء "شهر العسل" بينهما قبل أن يحين "موسم القطاف"، وهو كما يعلم القاصي والداني في الانتخابات النيابية، فإنّ الدرس الأكبر والأهمّ يبقى ذلك الذي على الشعب أن يفهمه.

فإذا كان صحيحاً أنّ هزيمة مرشح السلطة أمام مرشح المجتمع المدني في انتخابات نقابة المهندسين حصل بفضل "خيانة" بعض من هم في السلطة، و"انتقام" آخرين، وساهمت فيه بعض الأحزاب السياسيّة بشكلٍ أو بآخر، إلا أنّ الصحيح أنّ اختزال الأمر بهذا الشكل حصرًا هو ما تريده السلطة.

ولكن ما لم تتنبّه له هذه السلطة أنّ هزيمتها في انتخاباتٍ نقابية، وإن أسهمت هي فيها، قد تكون بداية التغيير، إذا ما فهم الشعب الرسالة، وأدرك أنّ الأمل موجود، ولا مستحيل بعد اليوم!