بحكمته منع الرئيس العماد ميشال عون انفجار الوضع السياسي في لبنان في 13 نيسان الحالي، عبر إعلان قراره الدستوري بتعليق انعقاد مجلس النواب لمدة شهر، مبرّراً الخطوة برغبته إعطاء فرصة إضافية للسياسيين للاتفاق على قانون انتخاب يمكّن لبنان من تفادي اللاءات التي وضعها المتمثلة برفض قانون الستين النافذ لعدم عدالته، وبالتالي عدم مشروعية الانتخاب على أساسه، وبرفض التمديد لمجلس النواب، لأنه فعل غير دستوري وغير مشروع، حيث ليس للوكيل أن يمدّد توكيله من دون الرجوع الى الموكِّل.

لقد فسّر البعض القرار الدستوري للعماد عون بأنه انتصار له، لكونه حال دون انعقاد مجلس النواب، وبالتالي حال دون إقرار اقتراح القانون المعجّل المكرّر الذي كان سيُعرض على الهيئة العامة لتقرّ التمديد بأكثرية مريحة ومؤمّنة لمدة سنة، أما البعض الآخر فقد رأى في الخطوة مجرد تأجيل القرار لمدة شهر لأنّ المدة المتبقية من فترة الدورة العادية تتيح للمجلس التصويت مرتين على الاقتراح وإقراره حتى ولو قام رئيس الجمهورية بردّه، لذلك لم يناقش هذا الفريق كثيراً في شكل القرار وطريقة اتخاذه ولم يتوقف عند مسألة ضرورة صدور قرارات الرئيس الملزمة للمجلس بموجب مراسيم سواء مراسيم تتخذ في مجلس الوزراء أو عادية توقع مع رئيس الحكومة.

وبالتالي فإنّ مهلة الشهر التي منحها الرئيس للنواب والسياسيين خارج المجلس بدأت تتآكل، وها قد مضى منها حتى الآن أسبوع كامل من دون أن يحدث خرق يعوّل عليه في مسألة قانون الانتخاب الذي ينتظر أن تضع الحكومة مشروعه وتحيله الى مجلس النواب الذي على لجانه دراسته وعلى هيئته العامة إقراره في مهلة لا تتعدّى آخر أيار المقبل.

لقد استمرّ تحرك بعضٌ من الأفرقاء العاملين في السياسة في لبنان من أجل الوصول الى قانون انتخاب، وهو تحرّك مطلوب ومشكور مبدئياً، ولكن المريب في بعض المشاريع المطروحة مخالفتها لروح الدستور من خلال الإمعان في انتهاك مبدأ المساواة والعدالة بين المواطنين وتعميقها للحالة الطائفية في الوطن.

ففي حين أنّ مقدّمة الدستور التي هي أسمى من مواده تنص وضوحاً على أنّ «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية»، و«ان لا شرعية لأيّ سلطة تناقض العيش المشترك»، فإننا نرى بعض المشاريع المطروحة والتي تتقدّم عن سواها في الطرح والترويج تعاكس هذه النصوص في ظاهرها وباطنها وفي فلسفتها، وهي المشاريع التي تتداول تحت عنوان قانون التأهيل الطائفي أو القانون الأرثوذكسي الذي يحصر في كلّ طائفة انتخاب نوابها.

غنّ القاعدة الدستورية الأساسية في التمثيل النيابي تقوم على القول بـ»انّ النائب يمثل الأمة جمعاء»، وبالتالي ومن منطق الأمور وبديهياتها أن تكون «الأمة جمعاء» مساهمة في انتخابه وهذا ما عملت به معظم الدول الديمقراطية عبر اعتبار الدولة كلها دائرة انتخابية واحدة وشعبها كله يمارس حقه بانتخاب مجلسها النيابي كله على قاعدة النسبية. وهي الصيغة الانتخابية الأكثر عدالة والأكثر وضوحاً ودقة في تطبيق القاعدة تلك، لما يمكن من تحقق حالة الانفتاح الوطني وتعزيز أواصر العيش المشترك وتهيئة البيئة السياسة والنفسية والاجتماعية لإلغاء الطائفية السياسية من النفوس قبل النصوص.

أما الانتخاب المقيّد بالطائفة فإنه يفعل العكس تماماً وتكون الحالة الوطنية والوحدة الوطنية والأحزاب القائمة على أساس وطني وتالياً هدف إلغاء الطائفية السياسية هي أول ضحاياها. وهو من دون شك أمر مخالف للدستور نصاً وروحاً ويكون مسؤولاً ويجب أن يطالَب على أساس مسؤولية خرق الدستور كلّ من يساهم فيه طرحاً أو قبولاً أو سكوتاً. ولا يخفف من وطأة الانتهاك هذا أن يكون في الانتخاب درجة ثانية على أساس وطني طالما أنّ المنطلق في الموضوع هو الأساس الطائفي الفاسد وما بُني على باطل فاسد فهو باطل فاسد. وهنا نطرح سؤالاً، هو: هل يقبل الطائفيون أن تكون مرحلتا الانتخاب التأهيلي معكوسة؟ أيّ نبدأ بانتخاب على أساس وطني وبالنسبية في لبنان الدائرة الواحدة كمرحلة أولى ثم تختار الطائفة نوابها من بين الفائزين في المرحلة الوطنية؟ وهنا نتوقع منهم الرفض طبعاً، ولذلك نسألهم مجدّداً إذا كنتم ترفضون اختيار الوطن، فكيف تريدون أن يقبل الوطن خياركم الطائفي؟

إنّ البحث عن قانون انتخاب يدير ظهره للوطن وللوحدة الوطنية ويتوجّه او يحصر بالطائفة والمذهب سيعمّق الهوة والشرخ بين اللبنانيين ويعرّض مصير لبنان ومستقبل وحدته للخطر، وبالتالي فإنّ على المسؤولين الذين يزعمون أنهم حريصون على الوحدة والوحدة الوطنية أرضاً وشعباً أن يحاذروا هذا الطرح ويمنعوا ويمتنعوا عن السير به حتى يمنعوا التقهقر الى الوراء، فعندما تصبح الطائفة حصراً من يختار نوابها فإنّ النائب لن يعنيه إلا الطائفة حتى ولو كان ذلك على حساب الوطن. وهنا نسأل اذا كانت حرب 14 عاماً مع اجتياحين إسرائيليين فشلت في تقسيم لبنان، فهل نقسّم لبنان في السياسة وبأيدينا؟

لقد أطلق العماد عون منذ 30 سنة مقولته الشهيرة «لبنان أصغر من أن يُقسّم وأكبر من أن يُبتلع»، وعمل طيلة حياته السياسية بوحي من هذه المقولة حتى وصل الى رئاسة الجمهورية، فهل يلتفّ البعض على مقولة الرئيس بشكل غير مباشر ويقدّم للبنان مشروع قانون انتخابي تقسيمي يؤدّي بلبنان الى الانتحار؟ وجوابنا نحن أنّ الرئيس الذي نعرف مقدار تجذّره في الفهم والفكر الوطني لن يسمح للطائفيين بضرب مسيرته السياسية التي قادته الى إنشاء «تيار وطني حر» لم يسمّه تياراً مسيحياً ولم يسمّه تياراً مارونياً أو عونياً، ولم يقل يوماً «أمن المجتمع المسيحي فوق كلّ اعتبار»، كما قال سواه. وبالتالي يبقى الرئيس إحدى الضمانات الرئيسية الأساسية والقوية لقطع الطريق على قانون انتخاب يرسخ الطائفية ويجتثّ الحالة الوطنية.

وعلى هذا الأساس نرى أنّ الأسابيع الثلاثة المتبقية من مهلة الشهر هي مهلة أخيرة للعمل السياسي لبلورة قانون انتخاب يلتزم في أحكامه بالدستور والميثاق الوطني وقواعد الوحدة الوطنية والتمثيل الصحيح ويعزّز العيش المشترك. قانون تكون فيه النسبية الصلب والأساس فيه. ويكون هذا السيناريو أيّ الاتفاق على النسبية الكاملة هو السيناريو المنطقي الإنقاذي الأفضل للبنان، فإن لم يعمل به سيكون السيناريو الثاني التالي:

وهو السيناريو السيّئ الذي يحمل في ثناياه الخطر الشديد على لبنان. وهو سيناريو التمديد، حيث سيكون نتيجة الفشل في الوصول لقانون انتخاب وطني عادل قائم على النسبية، والفشل في الوصول لأيّ قانون آخر وإصرار الرئيس على رفض الانتخاب على أساس القانون الحالي النافذ. هنا سينطلق الخائفون من الفراغ في السلطة التشريعية للتمديد لمجلس النواب مع توقّع ما يلي:

ـ إقرار قانون التمديد في جلسة 15/5/2017 المقرّرة من الآن.

ـ رفض رئيس الجمهورية التوقيع على القانون وإعادته الى المجلس في 20/5/2017.

ـ عودة المجلس لإقرار القانون بأكثرية مطلقة في 23/5/2017 ويصبح نافذاً من غير توقيع الرئيس.

ـ طعن الرئيس أمام المجلس الدستوري.

ـ تعطيل نصاب المجلس الدستوري والحؤول دون النظر بالطعن، وبالتالي نفاذ القانون ما يرتّب انقساماً وطنياً قد يودي بالحكومة ويعطّل المؤسسات الأخرى.

أما الثالث فهو السيناريو الإكراهي ويتمثل بالعودة الى القانون النافذ مع «وعد للكمون» بإنتاج قانون انتخاب جديد في يوم ما. وهو السيناريو الذي يبدو أنه الأقرب للأعمال خاصة بعد موقف البطريرك الماروني الداعي إليه وسكوت الأطراف عن إبداء أيّ موقف حياله حتى الآن والسكوت علامة الرضا. وهنا سيكون تمديد تقني لمهلة ستة أشهر وإجراء الانتخابات في الخريف المقبل ويكون النواب قد سخروا من الشعب واقتنصوا مهلة ولاية كاملة من غير انتخاب ونعود إلى الحلقة المفرغة ذاتها خلال السنوات الأربع المقبلة.