على الرغم من أنّ "التيار الوطني الحر" بشخص رئيسه وزير الخارجيّة ​جبران باسيل​ كان الفريق السياسي شبه الوحيد الذي تقدّم بالمشاريع الانتخابية واحدًا تلو الآخر في سبيل الوصول لتوافقٍ ما، إلا أنّ السهام كانت دائمًا مصوّبة باتجاهه، من الحلفاء والأصدقاء المفترضين، إلى الخصوم المعروفين، لدرجة قيل أنّ الرجل لم يترك له "صاحباً".

اتُهِم باسيل تارةً بالوقوف وراء مخطّطٍ لـ"إقصاء" باقي المسيحيّين وإخراجهم من اللعبة، وتارةً أخرى بتكريس الطائفيّة في وطنٍ يجب أن يخطو إلى الأمام باتجاه العلمنة والمدنيّة، وذلك من خلال مشاريع قوانين فصّلها على قياسه وقياس "القوات اللبنانية"، التي، وللمفارقة، شملها "الامتعاض" من أداء الرجل في الآونة الأخيرة.

ولعلّ "كلمة السرّ" الكامنة خلف كلّ هذه الخلافات، العلنيّ منها كما المستتر، تكمن في معركة الرئاسة القادمة، التي يُقال أنّ باسيل أطلقها، هو الذي يسعى لتجسيد "الخلافة الجيّدة" التي قال رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قبل فترة أنّه يريد التأسيس لها...

انتقاداتٌ بالجملة...

منذ ما قبل استخدام رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لصلاحيّاته الدستورية عبر تعطيل عمل مجلس النواب شهرًا كاملاً، أراد أن يستفيد منه ممثّلو الأمّة للوصول إلى توافق حول قانون الانتخاب يقي البلاد من "شرّ" تمديدٍ ثالثٍ، والوزير جبران باسيل محطّ انتقاداتٍ بالجملة من الحلفاء والأصدقاء والخصوم، على حدّ سواء.

وإذا كان البعض ذهب بعيدًا في الهجوم "الشخصيّ" على الوزير، وبالغ البعض الآخر في الدفاع عنه، وصولاً لحدّ "تقديسه" في بعض الأحيان، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ قراءةً عقلانيّة للأمور تفضي إلى أنّ الكثير من الانتقادات كانت مُحِقّة، وإن اكتفى أصحابها بالتنظير، من دون أن يترجموا أقوالهم بمبادراتٍ حقيقيّة وفعليّة، من شأنها تبديد الهواجس الموجودة لدى أكثر من فريق، والتي لا يمكن نكرانها.

وفي هذا السياق، قيل أنّ الوزير باسيل يفصّل القوانين التي يقترحها على قياسه وقياس "القوات"، لأنّه يريد الاستفادة من التحالف المستجدّ مع "القوات" لـ"اجتياح" المناطق المسيحية إن جاز التعبير، في حين أنّ الموافقة على القوانين التي سبق لـ"التيار" و"القوات" أن تبنّياها في أيام "الخصومة" تفرّغ التحالف من مضمونه، وتجعله بلا فائدة، ومن هذه القوانين على سبيل المثال لا الحصر الاتفاق الذي أبرم في بكركي على اعتماد النسبية وفق 15 دائرة، والذي تنصّل منه كلٌ من "التيار" و"القوات" بحُجّة أنّ "ما قبل التفاهم شيء، وما بعده شيءٌ آخر".

وغير بعيدٍ عن ذلك، شكّل الخطاب "الطائفي" الذي اعتمده باسيل محطّ انتقادٍ لكثيرين باعتباره ارتقى في محطاتٍ عديدةٍ لمستوى ما يمكن توصيفه بـ"الداعشية السياسية"، خصوصًا عندما يخوّن كلّ من يخالفه الرأي، ويطيح بأصوات مواطنين معتبَرين، كما يحصل مثلاً في المرحلة الأولى من القانون "التأهيلي"، التي تصنّف المواطنين "درجة أولى وثانية" وفق مذهبهم، وتحرم الكثيرين منهم من أصوات أقرب المقرّبين لهم، إذا كانوا مثلاً ممّن لجأوا إلى "الزواج المختلط"، الذي يُعتبر "التيار"، للمفارقة، من الداعين إليه.

ولكن، هنا أيضاً، وعلى الرغم من مساوئ مثل هذا الخطاب، خصوصًا عندما يصدر عن تيّارٍ لطالما حارب الطائفيّة والمذهبيّة، إلا أنّه لا يمكن عزله عن محيطه، خصوصًا أنّ قانون الانتخاب هو "حجر الأساس" لبناء الدولة، ولا بدّ، على طريق إقراره من مراعاة هواجس مختلف الفئات، وقد تكون بعض الانتقادات في هذا السياق محطّ انتقادٍ، خصوصًا أنّ بعض المعترضين على "طائفيّة" القانون هم أصلاً ممّن كرّسوا وما يزالون "الطائفية" في النظام اللبناني ككلّ.

"القوات" مرتابة...

رغم كلّ هذه الانتقادات، يتصرّف "التيار الوطني الحر"، بشخص رئيسه الوزير جبران باسيل، وكأنّه غير معنيّ بها، ربما لأنّه انتقل، مع بدء العهد الجديد بوصول العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، من منطقة "الدفاع" إلى "الهجوم"، وربما لأنّه يعتبر أنّ العودة إلى الوراء لم تعد خياراً متاحًا، أياً كانت الأسباب والدوافع.

وإذا كانت تحالفات "التيار" المتعدّدة، حتى تلك التي وُصِفت بـ"المتينة" قد اهتزّت إلى حدّ كبير بفعل تفاهمه مع "القوات"، فقد يكون مفاجئًا للبعض أنّ العلاقة مع الأخيرة لا تبدو في أحسن أحوالها، وأنّ قيادة "القوات" ممتعضة هي الأخرى، من أداء الوزير جبران باسيل في الكثير من التفاصيل، وإن كانت تمارس سياسة "غضّ النظر".

ويمكن القول في هذا السياق أنّ "الامتعاض" القواتي، الذي بدأ بالظهور بخجلٍ منذ فترةٍ غير قصيرة، سواء من خلال مقاربة التعيينات الأمنية والإدارية، أو انتخابات نقابة المهندسين، وصل إلى أوجه مع اقتراح "القانون التأهيلي" الذي طرحه الوزير باسيل، والذي لم تكن "القوات" في جوّه أبدًا، وخير دليلٍ على ذلك كمّ الملاحظات التي أبدتها إزاءه، والتي من شأنها نسفه عن بكرة أبيه، علمًا أنّ "القوات" التي دافعت عن اقتراح باسيل ما قبل الأخير "حتى النفس الأخير"، وكانت تستعدّ للنزول معه إلى الشارع رفضًا لقانون التمديد، كانت تتوقّع منه تنسيقاً أكثر، بدل التعامل معها كـ"حرف ناقص".

ولعلّ تفسيراً واحداً يمكن أن يختصر الموقف الحقيقي، وهو أنّ هناك من بدأ يتعامل مع قانون الانتخاب، وكأنّه "الحجر الأول" في معركة الرئاسة، التي انطلقت قبل أوانها. وفي هذا السياق، يبدو واضحًا أنّ باسيل، المستعدّ للتضحية بمقعده البترونيّ إذا اقتضى الأمر، يريد تكريس نفسه المرشح الأقوى لخلافة الرئيس ميشال عون، وبمباركة الأخير بطبيعة الحال. وإذا كان باسيل يحرص على الاستفادة من "القوات" لعزل المرشحين المحتملين، وعلى رأسهم رئيس تيار "المردة" النائب سليمان فرنجية، فإنّه لا شكّ يحسب حساباً أيضاً لرئيس حزب "القوات" الذي يضع الوصول إلى الرئاسة بعد عون نصب عينيه، علمًا أنّ هناك وجهة نظر تعتبر أنّ باسيل يسعى ليحصر المعركة بينه وبين جعجع، باعتبار أنّ ذلك سيصبّ في صالحه في نهاية المطاف، كون "الحكيم" مرفوضٌ شيعيًا، ما يصعّب المهمّة عليه، سياسيًا وميثاقيًا.

ربع الساعة الأخيرة؟

قد يعتقد البعض أنّه من المبكر كثيرًا الحديث عن معركة الرئاسة في هذا الوقت، خصوصًا أنّ التجارب السابقة دلّت على أنّ الرئاسة كما غيرها لا تُحسَم في لبنان إلا في ربع الساعة الأخيرة، وأنّ رئيس الجمهورية ميشال عون لا يزال يردّد أنّ عهده لم ينطلق عمليًا بعد، بل إنّه لن ينطلق إلا بعد الانتخابات النيابية المنتظرة.

قد يكون ذلك صحيحاً، ولكنّه لا يمنع أنّ المرشحين "الطموحين" بدأوا يعدّون العدّة لخلافة عون من الآن، خصوصًا أنّ المجلس النيابي المقبل إما يحضّر الأرضية لهذه الانتخابات، أو يخوضها بنفسه، خصوصًا إذا ما طالت فترة التمديد، تقنياً كان أم سياسيًا، وهو خيارٌ أكثر من وارد...