لم يسبق أن مرّ لبنان بأجواء سياسية مشحونة منذ نهاية الحرب اللبنانيّة، كما الحال الآن. عند اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري كاد البلد ينزلق الى فتنة مذهبية بين السّنة والشيعة. لكن رغم خطورتها لم تلامس الحرب، لأنها لم تصل الى حد الاطاحة بالدستور وفرض نظام سياسي جديد. اليوم يبدو الوضع أخطر بكثير. ما يجري في رحلة البحث عن قانون انتخابي يعيد البلد الى مناخات عام 1975. الفارق أن المسلمين حينها ارادوا قلب الطاولة لتغيير النظام السياسي وضرب المارونية السياسية، مدعومين آنذاك بتنظيم فلسطيني ورعاية خارجية. اليوم يحاول رئيس التيار الوطني الحر وزير الخارجيّة ​جبران باسيل​ تغيير النظام بخطوات تدريجية والانقلاب على اتفاق الطائف وعدم الاعتراف ببنوده الجوهرية، رغم الحاجة الى تطبيق الغاء الطائفية السياسية التي ستصب لاحقا في مصلحة المسيحيين.

مجرد تصعيد باسيل في خطابه الطائفي يستولد الان شحناً تلقائياً طائفيا عند الطوائف الاخرى. من يضبط التطرف حينها؟ يزيد من خطورة الامر عجز رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ عن مجرد إبداء الرأي. يزداد الحديث عن ان "عجز الحريري" ناتج عن اتفاقات وصفقات تجارية ومالية مع باسيل. يُقال في الصالونات السياسية ان الحريري يترجم ما يقرره وزير الخارجية لجهة رفض المشاركة في جلسة مجلس النواب في 15 ايار، او الدعوة الى عقد جلسة لمجلس الوزراء. لم يُسمح للحريري بعقد جلسة للحكومة الا بعد اتخاذه قرار عدم الموافقة على حضور جلسة 15 ايار. يردد سياسيون ان عجز الحريري ظهر أيضا في شلّ عمل اللجنة الحكومية التي كانت مكلّفة البتّ ب​قانون الانتخاب​ات، لم تجتمع الا في لقاء يتيم، ليتحول القرار من السرايا الحكومية الى قصر بسترس.

يوما بعد يوم يرتفع الخطاب الطائفي عند باسيل، لكن بالمقابل يزداد الشحن التلقائي في الساحة الاسلامية السنية قبل الشيعية. يتهمون باسيل ببث "خطاب عنصري" والحريري بالعجز عن حماية اتفاق الطائف. المشكلة هنا ان الموازين لم تعد كما كانت في السبعينات والثمانينات. صحيح ان لا قوات فلسطينية ولا حركات يسارية موجودة ولا الحزب التقدمي الاشتراكي مسلحاً، لكن الأخطر من كل هؤلاء وجود بيئة حاضنة لفكر إسلامي متطرف بدأ يستغل "عجز الحريري" لتسويق نقمة على الخطاب المسيحي المتطرف. لا يقل الأمر استياء من خطاب باسيل عند الشيعة. يتردّد الحديث عن "عدم تقدير" وزير الخارجية للوقفة التي صمد فيها حزب الله تحديدا الى جانب باسيل في حفظ دوره بالحكومات، وثم فرض العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية، عدا عن الدعم المالي والمعنوي للتيار الوطني الحر.

الخطورة في هذه المرحلة أن التطرف يجتاح المنطقة، ولا يمكن الرهان على الأميركيين او الاوروبيين لحفظ المكونات الطائفية في لبنان. ما يحصل في العراق وسوريا ومصر أكبر دليل، ولا صحة للحديث عن ان التطرف يُهزم. لم يستطع الاميركيون بت أمر الموصل ولا دير الزور ولا الرقة. لم يحمِ الغرب المسيحيين في تلك المساحات، فهاجر السريان من الشمال السوري الى السويد، ونزح الارثوذكس والموارنة من حلب الى الساحل ودمشق او هاجروا الى دول غربية. وقفة تلك الدول مع المسيحيين تجلّت فقط بتسهيل انتقالهم الى الخارج وإعطائهم حوافز اجتماعية ومالية. الأمر يتكرر في سيناء-مصر مع الاقباط. تلك الكوارث في الشرق لا يمنعها خطاب طائفي، بل الاندماج بالخطابات الوطنية. المكونات تحمي بعضها كما الحال على الحدود الشرقية للبنان او ما حصل في معلولا السورية.

في لبنان تجارب لا زالت حاضرة يوم اعلن الاميركيون الاستعداد لارسال بواخر للمسيحيين اللبنانيين. او يوم فشل السلاح والخطاب الطائفي في حماية المسيحيين.

تلامس الاجواء اليوم خطورة المرحلة الماضية الى حد القلق من توتر يفتح البلد على حرب. كيف ذلك؟

يصرّ باسيل على خطابه بحجة تحصيل الحقوق المسيحيّة. قد تكون غايته لفرض نفسه زعيما كما كان الرئيس بشير الجميل. او ربما يسعى فعلا لاجراء تعديلات دستورية تعطي للمسيحيين مكاسب خسروها ابّان الطائف لصالح مجلس الوزراء مجتمعاً. صحيح ان ظاهر الازمة هو مع الدروز او شكل المشكلة مع الشيعة، لكن جوهرها أزمة مقبلة مع السنّة الذين رفعوا شعار "الطائف خط احمر". فإذا ازداد التصعيد وغاب الاتفاق على قانون سيدفع لبنان مجتمعا الثمن. سينضم عملياً الى مساحات المنطقة المشتعلة.

العجز لا يقتصر على الحريري، بل عند القوى المسيحيّة الأخرى. لم يستطع تيار المردة ترجمة خطاب وطني يتمسّك به. بقي يتفرج بفعل تموضعه في منطقة جغرافية شمالية محصورة. لم يستطع المردة التمدد الى جبل لبنان ولا الى البقاع او الجنوب، بإستثناء حالات فردية خجولة. قد تكون المشكلة بأداء المردة الموسمي، رغم ان رئيس التيّار النائ سليمان فرنجية شخصية مقبولة على مساحة الطوائف. لم يسمع اللبنانيون خطابا لفرنجية كما يفعل باسيل. فهل استسلم المردة؟ ترك حلفاؤه يدافعون سياسيا وحكوميا عنه، حتى صحّ السؤال: أين المردة؟ كل المؤشرات توحي بأن المؤتمر التأسيسي بات هو المخرج بعد الوصول الى حافة الهاوية. لكن كيف؟ على اي اساس؟ بالطبع لن يكون بمصلحة الموارنة تحديدا، استنادًا الى الأعداد مثلا.

وهذا التوجه يعتبر مدمّرا للبنان. أي بعثرة ستأخذ البلد الى متاهات، لأن المسيحيين لا يتحملون تغييرا في التركيبة، ولا المسلمين قادرون على العيش في بلد يخلو من المسيحيين. ما قيمة لبنان حينها؟

فلنضع السيناريوهات المطروحة:

*تغيير النظام يستولد ازمة وجودية بسبب التباينات الجوهرية، وعدم وجود ضوابط ورعاية خارجية.

*استغلال التطرف الإسلامي للخطاب الباسيلي التصعيدي، وضم لبنان الى مساحات اقليمية مشتعلة.

*الاتفاق على قانون انتخابي يحقق الضمانة لكل القوى. علما ان الضمانة لا يحققها قانون بقدر ما تتحقق بتعايش وايمان وطني حقيقي.

اللافت ان رئيس حزب القوات ​سمير جعجع​ يتفرج من دون تدخل. قد يكون "الحكيم" هو الحل. علمته التجارب وبات خبيرا سياسيا محنكا. وللقوات مصلحة في تقريب المسافات بين القوى بعدما باعدها باسيل. سيكسب حينها جعجع في السياسة انطلاقا من قوة حزبه، وقدرته الذاتية على ضبط او اثارة شارع. علما ان محازبي القوات ينتشرون على مساحات المناطق ويتداخلون مع كل المذاهب والطوائف. تجربة البقاع الشمالي في التعاون مع القوى جميعها تستحق توسيعها لتصبح على مستوى الوطن.