في مصطلح غير مسبوق اعتمدت الدول الثلاث الضامنة لتفاهم "وقف الأعمال القتالية في سورية " مذكرة جديدة تقوم على أنشاء "مناطق خفض التصعيد " في سورية تهدف إلىوقف العنف وتهيئة بيئة أفضلللانطلاق بشكل ثابت نحو الحل السياسي للازمة التي تجاوزت السنوات الست (وقع المذكرة بصفة ضامن للتنفيذكل من روسيا وإيران وتركيا)

ومن الواضح ان مصطلح "مناطق خفض التصعيد " هو مصطلح جديد يدخل إلى قانون النزاعات المسلحة ويتمايز عما هو معروف من مصطلحات متقاربة كالمناطق الأمنةأو المناطق العازلة،وبالتالي يكون من المفيد لا بل من الضروري ضبط مدلولات هذا المصطلح حتى لا يكون شطط في الفهم أو انحراف في التنفيذ بعيدا عما شاءه بعض أو كل الضامنين،والأهم من ذلك حتى لا يكون عمل خلاف لما قبلت به الدولة صاحبة السيادة على الأرض السورية حكومتها التي تمارس هذه السيادة.

في البدء نقول ان المصطلح جاء بمثابة انتقال في مفهوم “وقفالعامل العدائية " المعمول به منذ كانون الأول 2016 ، انتقال من المعيار الشخصي إلىالمعيار الجغرافي فالتفاهم السابق كان يحدد جهة معينة تقبل به ما يرتب منع قيامها أو استهدافها بعمل عدائيأما المصطلح الجديد و كما يرشح من بنود المذكرة فانه يحدد 4 مناطق على الأرض السورية يكون فيها محظورا اللجوء إلى القوة و العنف تحت أي ذريعة .و هنا يكمن الهاجس الأول الذي يطرح السؤال من سيعالج امر الإرهابيين المتواجدين داخل تلك المناطق و الذين لم يلتحقوا بنظام وقف الأعمال القتالية ، طالما ان الجيش العربي السوري لن يقوم بمقتضي المذكرة بعمل قتالي داخل هذه المناطق؟

قد يسارع الضامنون إلى القول بان القوى المسلحة التي تتواجد في الداخل هي المناط بها امر تجريد الإرهابيين من سلاجهم أوإخراجهم من المنطقة،أو الاستعانة بقوى من خارجها لمساعدتها في المهمة، فاذا كان هذا هو المرسوم فيكون التدبير إيجابيا لأنه سيفضي إلىامرين: الأول الإجهاز على الإرهابين والثاني إعادةالأمنوالأمان إلى المناطق التي يمكن ان تصبح امنه للعيش تحت مرجعية امنيهمحددة.

بعد هذا نعود إلى الأساس الذي أرسيت عليه المذكرة وهو قرار مجلس الأمن 2254 الذي يؤكد على وحدة سورية أرضاوشعبا وعلة سيادتها وقرارها المستقل،والمذكرة تستعيد العبارات ذاتها ما يعني ان الدول الضامنة الثلاث التزمت بمواجهة مشاريع وطروحات تنال من وحدة سورية بما في ذلك مشاريع التقسيم الصريح أو المقنع وفي هذا قطع طريق على مشروع الدويلات التي تحاول أميركا تمريره تحت عنوان الأقاليم الثلاث أو المناطق الأمنة.

أما في تعيين المناطق فقد ظهر واضحا أنها أربع مناطق لا يوجد فيها الجيش العربي السوري ، و في هذا قد يقول مراقب ان هذه المذكرة حرمت الجيش من فرصة استعادة هذه المناطق ، هنا نرى التذكير بان مهمة الجيش ليست القتل والأعمال العسكرية لمجرد المناورة و القتل بل أنهاأعمال هادفة إلى وقف العنف و استعادة الأمن و دفع المتمردين و الخارجين عن القانون للتخلي عن العنف والعودة إلى العمل السياسي فقط ، فاذا تحقق ذلك عن طريق المذكرة فانه يكون امرأ جيدا لأنه يحقن الدماء و يضمن امن المواطنين و يهيئ بيئة العمل السياسي . كما انه من جهة أخرى يوفر قوى الجيش العربي السوريلنقلها إلى ميدان أخر والقيام بتطهيره من داعش والنصرة الإرهابيتينواللتين لا يشملهما نظام وقف الأعمال القتالية.

ومن جهة أخرى فان من يتفحص خريطة مناطق خفض التصعيد يجد ان التنفيذ الصحيح لها سيجعل المدن السورية الكبرى كليا بمنأى عن أي تهديد إرهابي أو أي عمل من أعمال العنف وفي هذا مصلحة وطنية سورية مركبةامنيهواقتصادية واجتماعية بدونشك.

وعليه فأننانرى ان من إيجابيات هذه المذكرة ضمان وحدة سورية،وحقن الدماء، والاقتصاد بالجهد دون التراجع أو التنازل عن الأهداف وتسهيل أو تسريع استعادة ما تبقى من مناطق سورية إلى كنف الدولة بعد طرد الإرهابيين منها أوالإجهازعليهم، كما أنها تهيئ البيئة للخدمات الإنسانية في المناطق المعينة وتهيئ البيئة الأفضل للعمل السياسي، يتحقق كل ذلك إذا سلمت النوايا وحسن التنفيذ.

ورغم هذه الإيجابياتالهامة، فان مذكرة مناطق خفض التصعيد أثارت هواجس ومخاوف البعض ممكن اكتووا بنار الغدر والانقلاب علىالاتفاقاتوالتفاهمات خاصة وان أحد الأطراف الثلاث في المذكرة–تركيا-والمناط بها ضمان التزام المسلحين بها، اشتهرت بالغدر والنكول والانحراف بالاتفاقات عن حقيقتها،هذا فضلا عن بقاء أطراف رئيسين من منظومة العدوان على سورية خارج المشهد أو يتقلبون بين الموافقة والرفض خاصة أميركاوالسعودية وقطر.

وعلى سبيل التذكير هنا نتوقف عند الأنكار الأميركي للتنسيق مع روسيا في مسالة المذكرة ككل وفي مسالة حظر "طيران التحالف" فوق مناطق خفض التصعيد المحددة، كما نتوقف عند رفض المعارضة التي تقودها السعودية للمذكرة وظهور قطر في موقف رمادي يوضحه أعلامها ليجعله سلبيا من المذكرة.

و مع هذا المشهد قد يخشى ان تقدم مكونات العدوان بعضها او كلها على استغلال المذكرة و تطوير مناطق خفض التصعيد إلى المناطق الأمنةبالمفهوم الأميركي الذي تتحول بعده إلىنواة للتقسيم .أو تستغل تركيا الموقف و ترسل جيشا إلى منطقة إدلب لتحولها واقعيا إلى منطقة نفوذ لها ،كما يخشى من استغلال عبارة "طرف ثالث" الواردة في المذكرة لتعيين قوى المراقبة و التفتيش و ورسم خطوط الأمن ، لتطويرها إلى قوى فصل داخل الدولة ما يمس بسيادتها و وحدتها ، كما يخشى من تحول المشهد المؤقت و المحدد ب 6 اشهر مبدئيا إلى امر واقع دائم ، و نحن نعلم كم من مؤقت في القانون الدولي العام انقلب إلى دائم بالأمر الواقع كما هو مثلا حال قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان التي دخلت اليه في العام 1978 بشكل مؤقت و هي قائمة حتى اليوم فيه .

ان هذه المخاوف والهواجس هي من قبيل ما لا يمكن إهمالهوبالتالي لا بد من مواجهتها عملا بالقاعدة " ان سوء الظن من حسن الفطن " ولكن يبقى بيد سورية ما يجعلها في دائرةالطمأنينةخاصة هناك:

ان اثنين من ثلاثة هم ضامنون للمذكرة وحسن تنفيذها هم حلفاء سورية (روسيا-إيران) وبالتالي فانهم لن يسمحوا بالانحراف في التطبيق أوتجاوزلروح المذكرة والأهداف منها من أي جهة كانت.

ان سورية قبلت المذكرة وأجازت تنفيذها على أرضها بروح وذهنية حفظ الوحدة والسيادة الوطنيةوان أيخروج على هذا الفهم يجعل سورية في حل من الالتزام ويحول القوة المنتهكة إلى قوى محتلة وعدوة تواجه بكل وسائل المواجهة المتاحة شرعا وقانونا وقدرات.

ان المذكرة مؤقتة من حيث المهلة – 6 أشهر-وإذا لم تكن خلالها مجدية فلا أحد يملي على سورية القبول بتجديدها وتكون سورية قد استفادت من فرصة الأشهر الستة تلك من اجل إعادة تجميع وتنظيم ونشر القوى كما ومعالجة المنطقة الشرقية بما تقتضيهالمصلحة الوطنية السورية العليا.

ان محور المقاومةالذي وقف إلى جانب سورية دفاعا عن وحدتها ودفاعا عن نفسه وفعاليته لن يسمح باي انحراف يأخذ منه ما تحقق من مكاسب خلال حربه الدفاعية.

واختم بالعنصر الأهم ان في سورية قيادة لا يمكن ان تفرط أو تسكت عن أي مس بوحدة الدولة وسيادتها وهي لو كانت بهذا الوراد لما واجهت تلك المصاعب والمخاطر منذ 2003 يوم المواجهة مع الوزير الأميركي كولن باول وحتى اليوم خاصة وأنها اليوم اشد واقوى ذاتا وتحالفا وميدانا وواقعا وبيدها من القدرات الذاتية والتحالفية ما يجعلها مطمئنة للنجاح في أي قرار تتخذه لصالح سورية.