لا تشبه حكاية استقالة البطريرك ​غريغوريوس الثالث لحام​ قصّة سلخ المطران الياس نصار عن أبرشيته في صيدا ودير القمر. لكلتا الكنيستين الكاثوليكية والمارونية في هاتين الحادثتين شبه المتزامنتين أسبابهما “التخفيفية” ومعاييرهما الخاصة ولو أن ما تسرّب عنهما يبقى نقطة في بحر ما تحفظه جدران الأديرة والكنائس والسكرستيّا.

منذ أقل من ثلاثة أشهر اهتزت الكنيسة المارونية بفعل إجبار بكركي المطران الجنوبي نصّار على الانسحاب من أبرشيته، واليوم تهتز الكنيسة الكاثوليكية بفعل استقالة “طوعية” لبطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الملكيين الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحّام الذي بدا في الآونة الأخير غير قادر، بالقول والفعل، على “ضبط” مطارنة أبرشيته الذين أمعنوا في محاصرته وعقّدوا عليه عقد السينودوس بفعل مقاطعتهم.

بورصة المحظوظيّة

6 أيار 2017... تاريخٌ مفصلي في الكنيسة الكاثوليكية مع رحيل البطريرك الحلبي الذي خلف مكسيموس الخامس حكيم. 6 أيار 2017 انطلقت رحلة البحث عن بطريرك جديد وسط خلط أوراق وتردُّد أسماء كثيرة وتلاعب بورصة المحظوظية بين أقلية لبنانية وأكثرية سوريّة. ليس البحث عن الأسباب التي دفعت لحام الى الاستقالة مجديًا بعدما أصبح الموضوع “معلوكًا” في الإعلام رغم أن الكرسي الرسولي حسمه ببيانٍ مقتضب للحبر الأعظم أكد فيه أن “في لقائنا الأخير في 31 كانون الأول الفائت، أعلن البطريرك لحام وبشكل عفويٍّ عن نيته التخلي عن منصبه طالبًا مني قبولها في الوقت الذي أنا أريده. وبما أن موعدنا كان مقررًا لعشرين دقيقة، تم تمديده لعشرين دقيقة أخرى بعد إعلان البطريرك نيته في الإستقالة، وبعد الصلاة والتفكير قبلتُ استقالة البطريرك لحام”. وفي رسالة الى أساقفة كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، شكر البابا فرنسيس البطريرك لحام على خدمته وتسليط ضوء العالم على الأزمة السورية.

ما السرّ؟

أما وقد أوضح البابا بعض خلفيات الاستقالة التي ربطها كثيرون من باب التكهّن أو الركون الى معطيات بملفاتٍ مالية وبعجز لحام عن ضبط شؤون بيعته كما وبالعمر المتقدّم الذي يجعله عاجزًا عن الاضطلاع بكامل مهامه رغم أنه لم يكن يومًا كذلك، تبقى جملة حقائق لا يمكن تجاوزها طوال سنوات خدمة البطريرك المتمرّد في كنيسته متنقلاً بين سورية والربوة. كثيرًَا ما أعلن لحام في الأشهر القليلة الفائتة تمسّكه بالبقاء

في كنيسته ورفض الاستقالة. كثيرًا ما “كابر” على المشاكل التي كانت تحوّقه وتهدّد مكانه ومكانته. كثيرًا ما تكتّم على المشهدية الصاخبة التي كانت تدور في كواليس الكنائس والأديرة خشيةَ الفضيحة التي أخرجتها بعض الأقلام الى العلن يوم تحدّثت عن التفريط في أراضي البطريركيّة وغرقها في المحسوبيات والسمسرة.

سيكرّر رسالته

اليوم، يحمل لحام إنجيله وسبحته ويغادر ربما الى حلبه الجريحة وربما الى غرفةٍ صغيرة في لبنانه الحبيب. ولكن قبل أن يفعل ذلك، سيكرّر رسالته التي لطالما نادى بها أهل سورية، لن يتراجع قيد أنملة عن موقفٍ “سياسي” ظنّ كثيرون أنه سببٌ من أسباب الضغط عليه ليرحل. سيقولها أمام الملأ إنه يدعم السلطة الشرعية في سورية ويحارب التكفير والإرهاب كما يفعل كلّ بيت مسيحي صامد في سورية. لن يستسلم الرجل المشارف على التسعين رغم كلّ ما يحلّ بشرقه ومسيحييه وجميع أبنائه. لن يؤثر عبارات الرحيل التي تبناها كثيرون من أبناء البيعة خوفًا على أرواحهم. لن يصمت لحام بهذه السهولة أمام “تفريغ” ممنهج طالما أن جرسَ كنيسة واحدة يُقرَع في هذا الشرق من دون أن يُخرسه وجعُ الرحيل.

البطريرك الجريء!

جريءٌ لحّام أيًا تكن ظروف رحيله وأبعاده. جريءٌ في مواقفه من الأزمة السورية. جريءٌ في شعبويّته المفرطة ونزوله بين الناس وعدم ترفّعه الى منزلة لا تلامس الشارع وتحاكيه. جريءٌ باستقالته في عينها. جرأة لم يُخفِها الرجل يومًا في مقابلاته ومواقفه، وهو الذي أكد لـ”البلد” في مقابلة أخيرة أن “العرب مسؤولون عن محاربة “داعش” وليس الولايات المتحدة، ويمكنهم بمكوّنيهم المسيحي والإسلامي أن يتحملوا هذه المسؤولية لأن الوحدة العربية هي الآلية الأكثر نجاعة لتحقيق هذا الهدف... وأبعد من ذلك هي الضمانة لكلّ مواطن في الوطن العربي، أما إذا كان الرؤساء منقسمين فالشعب يكون على دين أسياده”. مردفًا: “الوحدة العربية هي أيضًا التي يمكنها أن تعطي قوّة إنسانية وطنية قوميّة اجتماعية جبارة في سبيل حلّ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. والبابا قالها مشيرًا الى أن هناك مفتاحين للسلام في المنطقة والعالم: المفتاح الأوّل توافق شامل للأزمة السورية فعليًا، والمفتاح الثاني هو العدالة للفلسطينيين. والحبر الأعظم أصاب الهدف في هذه الكلمات، وأظنّ أن الوحدة العربية ستعيد القضية الفلسطينيّة الى مستواها الحقيقي. وأبعد من ذلك، إذا كانت هناك وحدة عربية يغدو العالم العربي مجهزًا ومرشحًا لوسام جائزة نوبل للسلام على صدره، حينها فقط بوحدتنا نصدّر السلام لا الحرب وتنتشر الحريّة والديمقراطية والمواطنة والدولة المدنية والتناغم بين الدين والدولة والإسلام والشريعة. هذه الشريعة لا يمكن أن نستغني عنها، وأيضًا وصايا الله العشر. هذه شريعتنا، كلّ شريعة تتناغم مع مقتضيات القيم المسيحية. لمَ لا؟ الشريعة الإسلامية جيدة وأيضًا المسيحية والإنجيلية. هذا هو المستقبل ولا نرضى أن يكون هذا مكان ذاك. حينها فقط يحقّ لنا أن نفاخر بأن مشرقنا، مهد الديانات والحضارات، من أنجع نماذج العيش المشترك في العالم".

بقاؤهم من بقائها

هي أسابيع قليلة قبل أن يترك لحام أبرشيته. أسابيع قد لا يشي ما بعدها بأن الكنيسة الكاثوليكية ستكون في صحّة جيدة كصحّة البطريرك الذي لم يضنه العمر ولا ثقل الصلبان المشرقية، ومع ذلك قد يكون الخلف أخيرَ من السلف وهو ما ينشده كاثوليك هذا المشرق النازف والذين لا يجدون أن الوقت مناسبٌ البتّة لمزيدٍ من التضعضع في كنيسة يربطون بقاءهم ببقائها...