كلّ من يزور دمشق هذه الأيام ويلتقي المسؤولين الكبار فيها يلاحظ كمَّ الثقةِ بالمستقبل الذي يتحدّث به هؤلاء في استعراضهم لمجمل التطورات السياسية والعسكرية، بل يلاحظ بلا صعوبة حجمَ الاستعدادات لمراجعات شاملة تتعلق بجملة ممارسات وسياسات متّبعة سابقاً.

فعلى الصعيد العسكري لا يُخفي المسؤولون السوريون أمام زوارهم أنّهم جاهزون لمواجهة خطة عسكرية ممتدة من الجنوب الى الشمال تسعى الى تأمين «ممرات آمنة» لمسلحي «داعش» الفارّين من جبهات القتال في العراق.

ففي الجنوب لا يخفي هؤلاء المسؤولون قلقهم من أن تكون المناورات العسكرية الجارية في شمال الاردن تهدف الى تمدّد يقطع الطريق أمام ايّ جهد سوري - عراقي يحاول الإمساك بالجزء الجنوبي من الحدود السورية ـ العراقية لمنعِ تسلّلِ المقاتلين من العراق الى سوريا. وفي هذا الإطار يؤكد المسؤولون السوريون انّهم قد دفعوا بقوات كافية لإحباط هذه الخطة إذا تمّ تنفيذها فعلاً.

أمّا في الشمال الشرقي، فيتحدّث هؤلاء المسؤولون عن مشروع أميركي يهدف الى تأمين سيطرة حلفاء واشنطن على منطقتَي الرقة ودير الزور وصولاً إلى تَدمُر لتأمين تسلّلِ المقاتلين من العراق الى سوريا. وفي هذا الإطار يشنّ الجيش السوري بالتعاون مع حلفائه هجوماً لإغلاق هذا الممر الخطير.

المسؤولون السوريون، وعلى رأسهم الرئيس بشّار الأسد، يؤكدون أن «لا تقسيم في سوريا»، وأنّهم مستمرون في المعركة حتى تعود سوريا الى حضنِ الدولة، ولذلك يؤكّدون «أنّ سوريا لن تتخلى عن هويتها العربية»، على رغم إدراكهم لوجود «تبرُّم شعبي من مواقف عددٍ من الأنظمة العربية، وتحديداً الجامعة العربية، من الحرب على سوريا وفيها».

ويقول الأسد لزوّاره إنه «في غياب العروبة يتحوّل العرب مجموعاتٍ من الطوائف والمذاهب والأعراق والقبائل والعشائر المتناحرة، وإنّه رغم التبرّمِ الشعبي السوري من مواقف بعض الحكّام العرب فإنّ الغالبية الساحقة من السوريين قد أعلنَت رفضَها الكامل لتغيير اسمِ سوريا من الجمهورية العربية السورية الى الجمهورية السورية، والأمر نفسه ينعكس على مواقف السوريين من القضية الفلسطينية، فهم رغم انزعاجهم الشديد من تورّطِ بعض المنظمات الفلسطينية في الحرب الدائرة في سوريا وضد الدولة السورية، فإنّ المواطن السوري يميّز بين فلسطين وبين تنظيم فلسطيني من هنا أو من هناك، وهو يدرك أنّ ما تتعرّض له سوريا من مؤامرات مستمرّة منذ سنوات طويلة إنّما يعود الى تمسّكِها بهويتها العربية وبدورها القومي وبالقضية الفلسطينية وبحركات المقاومة التي تواجه العدوّ الإسرائيلي».

ومِن أبرز المراجعات التي يَلمسها زوّار دمشق، ما جرى الأحد الفائت مِن تحوّل حزب البعث، وهو التنظيم القومي الشامل لكلّ الأقطار العربية، من قيادة مركزية تقود الحزب في بقية الأقطار من دمشق، الى مجلس قومي يشرِف على التنسيق بين أحزاب البعث المنتشرة في اقطار عربية عدة، بحيث لا يبقى القرار المتعلق بقطرٍ ما مرهوناً بقرار مركزي، بل برؤية أعضاء الحزب في القطر الذي يَعملون فيه «فأهلُ مكّة أدرى بشعابها».

ومِن اللافت أنّ المسؤولين السوريين يدركون «أنّ هذه الحرب، على رغم كلّ الآلام والتضحيات التي تَسبَّبت بها، قد نَقلت المواطن السوري إلى مستوى عالٍ من الوعي، يدرك مخاطر الانجرار في لعبة العنف الطائفي والمذهبي والعنصري، الذي حاوَل أعداء سوريا استدراجَ بعض السوريين اليه، وفي الوقت نفسه وعي المسؤول في سوريا أنّ عليه الانفتاح على آراء المواطن والاستماع إلى شكاويه والتجاوب مع حاجاته، فكِلا الموقفين قادا إلى خسائر جمّة لم ينجُ أيّ طرف منها».

ويؤكّد المسؤولون السوريون لزوّارهم «أنّ سوريا تتجاوز الآثار المدمّرة لهذه الحرب، فحلب مثلاً اليوم هي غيرُها حلب قبل شهر، وحلب قبل شهر هي غير حلب عشيّة عودة أحيائها الشرقية الى حضنِ الدولة». ولا يخفي هؤلاء المسؤولون سعادتَهم لأنه «بدءاً من الشهر المقبل ستنزل إلى الاسواق سيارة سوريّة الصنع، وبعدها بأشهر ستنزل سيارة أخرى، مما يؤكّد أنّ عجَلة الإنتاج تدور، على رغم كلّ ما يدور حول البلد من دمار وخراب».

ويشدّد المسؤولون السوريون هنا على «أنّ إعادة الإعمار ستتمّ على قاعدة تمنع انكشافَ سوريا أمام مخاطر ما يسمّى الانفتاح الاقتصادي»، ويُعزون أحد أسباب صمود سوريا طوال هذه السنوات الى «سياسة الاكتفاء الذاتي التي اعتمدَها الرئيس الراحل حافظ الأسد، والتي حوّلت سوريا من بلد يشكو من نقصٍ في السلع الاستراتيجية كالقمح مثلاً، إلى بلد ينجح في تخزين ملايين الأطنان من القمح مكّنَت شعبَها من الصمود على رغم الأهوال التي كان يعيشها».

ويقول زوّار دمشق «إنّ العاصمة السورية تشعر بارتياح كبير بعدما زال كابوس كبير عن كاهلِها في بعض المناطق المحيطة بها، سواء من خلال المصالحات المحلية التي يَشعر المسؤولون السوريون بسعادة كبيرة حين يتحدّثون عنها، أو من خلال تطهيرها عسكرياً من التنظيمات المسلحة التي تسيطر عليها».

ويضيف هؤلاء «أنّ المسؤولين السوريين لا يتكلّمون حتى عن بعض مَن ناصَبهم العداء مع السنوات الماضية بلغةِ الحقد والتشفّي، بل يؤكّدون أنّ السياسة لا توجّهها الأحقاد بل المصالح القومية والوطنية التي تفرض أحياناً انفتاحاً واستيعاباً أو تصالحاً مع من كان خصماً في الأمس.

فالذي أنجَز مصالحات مع مجموعات أقدمت على قتلِ خيرةِ عناصر الجيش السوري والشعب، قادرٌ على إنجاز مصالحات سياسية في الداخل والخارج إذا كانت تصبّ في خدمة أمنِ سوريا واستقرارها ووحدتِها ودورها وعروبتِها وموقعها القومي».