لو شاءت ​الولايات المتحدة​ الأميركية أن تُحدث تغييرا في دولة قطر، سياسيا او عسكريا لفعلت. يكفي ان اهم القواعد العسكرية الاميركية في المنطقة هي قاعدة العديد الموجودة في قطر. ليست بحاجة واشنطن لأي ضغوط سعودية-خليجية -مصرية كي تُلزم الدوحة بتنفيذ أجندة سياسية محددة. الاميركيون قادرون على الزام القطريين بإتباع نهج سياسي يخدم واشنطن بمجرد الاشارة. لكن ماذا فعلت قطر كي ترفع الرياض شعار تأديب الدوحة وإخضاعها؟.

في السنوات الماضية خاض القطريون غمار قلب النُظم السياسية في دول عدة، وخصوصا في مصر وسوريا. لم تكن الدول الخليجية بإستثناء سلطنة عمان بعيدة عن التوجه القطري، رغم التمايز في الأداء بين عواصم خليجية والدوحة التي بدت رأس حربة في خوض معركة اسقاط الانظمة خدمة لحراك "الاخوان المسلمين". كان القطريون في العهد الماضي يخططون لتشكيل مساحة عربية ممسوكة. دفعوا الاموال الطائلة، وخاضوا مواجهات سياسية ودبلوماسية وإعلامية عنيفة أدت لمزيد من العنف في ساحات عربية. دعموا "جبهة النصرة" في سوريا وفتحوا مكاتب لحركات اسلامية متشدّدة في الدوحة، وظّفوا في مؤسساتهم رجال دين وفكر أمثال الشيخ القرضاوي وعزمي بشارة. وأصبحت الفتاوى السياسية والدينية تصدر من قطر. لم تطمئن الرياض للدور القطري. هما في الأساس لا ينسجمان تاريخيا مع بعضهما. يعتبر السعوديون ان القطريين يلعبون ادوارا أكبر من احجامهم. لكن الدعم الأميركي كان يمنع الآخرين من المساس بقطر. فكانت الدوحة مع الكل، هي داعمة لحركة "حماس" ضد الاسرائيليين، وتقيم علاقات دبلوماسية وسياسية مع تل ابيب. هي تحمي قادة "حماس" في دارها، وفي نفس الوقت تستقبل او يزور مسؤولون فيها تل ابيب. هي الى جانب المقاومة اللبنانية في حروبها مع الإسرائيليين كما بان في حرب تموز، ولكنها كانت جسرا جويا أميركيا لايصال السلاح الى تل أبيب. كانت تؤدي دورا تفاوضيا دوليا لا يُبعدها عن ابقاء الخطوط مفتوحة مع الاسرائيليين، لكن حكّامها اول من زاروا الضاحية الجنوبية لبيروت تضامنا، وساهموا في اعمار قرى جنوبية دمرها العدوان الاسرائيلي على لبنان عام 2006.

كان اميرها السابق حمد بن خليفة صديق الرئيس السوري بشار الاسد، يهوى دمشق التي باشر فيها قبل الازمة بناء قصر يطل على دمشق من ناحية الغرب، لكنه كان اول من انقلب عليه الأسد ووظف قناة الجزيرة التي يملكها لإسقاط الرئيس السوري. هي سابقت السعوديين على لعب دور في لبنان الى حد فرض اتفاق الدوحة عام 2008. لكن هذا الاتفاق لم يلغ اتفاق الطائف السعودي. حاولت ان ترث دورا سعوديا في ساحات عربية عدة، وتسابق الرياض في دول افريقية وفي العلاقة مع الاوروبيين. هي حاولت ان تحتل الدوحة موقعا شبيها بدبي الإماراتية. لكن ظروف وطبيعة القطريين وقلة اعدادهم واحتواء الدوحة لقوى اسلامية متشددة وعوامل اخرى منعت قطر من سباق الإمارات العربية. لم تستطع الدوحة ان تسرق دور ووهج سلطنة عُمان التي تمايزت بأدائها الصامت الفعّال، فلم تخض السلطنة حروبا سياسية ولا إعلامية وبقيت تؤسس لسلام الدول. لم تقدر الدوحة ان تكون فعّالة كما السعودية، ولا جاذبة كما الامارات، ولا وسيطة موثوق بها وفاعلة كما سلطنة عُمان.

اذا ما سر قطر؟ لماذا الحملات عليها لتطويعها؟

لا يقتصر الامر على دور قطري منحاز للانظمة الإسلامية من تركيا الى ايران عبر دعم "الاخوان المسلمين". ولا حول تدخل قطري في سوريا وليبيا، ولا حول انحياز الدوحة لحركة "حماس". كل ذلك دأبت على ممارسته قطر منذ زمن بعيد. لم تُستفز الرياض من الدوحة يومها، على الاقل علنيا. لكن منذ اشهر انخرطت الدوحة بدور تفاوضي مفتوح مع الإيرانيين والاتراك حول سوريا، ادى الى ابعاد "جبهة النصرة" عمليا الى ادلب، وسحب المقاتلين من ارياف دمشق وحمص وصولا الى حلب. حجة القطريين ان المشهد السوري تغيّر، وان جماعات السعودية يشاركون في مفاوضات استانة وجنيف (جيش الاسلام). فسارعت قطر الى حجز دور لها في مرحلة جديدة. عرفت الدوحة أنّ الانظمة هي نحو الترميم، وان محورا روسيا-تركيا-إيرانيا بات الاكثر فعالية في المشرق العربي. اطلعت قطر بدور حول العراق عندما رصدت قتال الأميركيين الى جانب مجموعات موالية لإيران وصلت اخيرا الى بعاج، وتخطط للوصول الى معبر القائم بين سوريا والعراق، وان القتال على اشده ضد "داعش". اطلع القطريون على مسار الميدان السوري الذي لم يُنتج تغييرا ضد دمشق بعد سنوات ست. لعبت الدوحة دورها المعهود في مسك العصا من منتصفها، لحماية مجموعات تحضنها منذ 2012. مدّت جسورا مع روسيا وايران بمساندة وتشاور وتنسيق مع تركيا لحفظ دور بعد اسقاط حليفها في مصر(نظام الاخوان).

كل ذلك استفز السعوديين. لكن الاسوأ بالنسبة الى الرياض هي الحرب التي يُقال ان الدوحة تخوضها ضد ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. هناك من يروّج ان قطر تدعم ولي العهد محمد بن نايف في سباق الاميرين لوراثة العرش السعودي. هذا ما استفزّ الرياض التي بقيت تترقب ضوءا اخضر اميركيا لاح بعد زيارة الرئيس دونالد ترامب. فلماذا وافقت واشنطن على "تأديب" قطر؟

لا يهم الأميركيون ما يقوم به القطريون او ما يستفز السياسة السعودية، ولا يكترث ترامب اساسا لدور الدوحة ولا للسباق القطري-السعودي. لكن الرئيس الأميركي يريد جني الاموال المنقولة وغير المنقولة عبر ضرب مصالح قطرية دولية لصالح واشنطن، وليس من اجل الرياض.

كيف ذلك؟

اذا كان ترامب استحصل على مليارات سعودية، فهو قادر على الاستحصال من الدوحة على مليارات ايضا، لكن التخطيط الأميركي هو أبعد من الحصول الآني على تلك المليارات. الغاز القطري ينافس الإنتاج الأميركي الذي يتصدر الى جانب استراليا دوليا. المخطط الآن هو الوصول الى نسف "شركة قطر" وضرب إنتاجها لصالح غاز اميركي يتحكم بسوق واسعة بعدها. هنا يؤمِّن ترامب مساحة تحصيل مالي ضخم يفوق ما ناله من الرياض.

تلاقت مصالح السعوديين والمصريين والاماراتيين مع توجهات الأميركيين. كل فريق "يثأر" من قطر لأسبابه. ليبقى المسار ضبابيا: هل تعود الدوحة الى الظل في الخليج تحت قيادة سعودية كما هي البحرين؟ أم تأمين مصالح واشنطن يُعيد لقطر وهجها؟ فلننتظر.