بعد زيارة ترامب إلى السعودية وما أحاط بها من صفقات واستعراضات ورقصات و…و الخ، اعتقدت السعودية أنها تلقت نهائياً من أميركا درع التبييت الإمبراطوري الذي يكرّسها السيد المطلق في العالمين العربي والإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط، كيف لا وهي دفعت ثمن هذا الموقع الذي تحلم به مبلغاً لم يكن يتخيّله أحد، حيث أغدقت على ترامب 460 مليار دولار في اكبر عملية تعويم للاقتصاد الأميركي، وانطلاقاً من هذا الموقع الذي افترضت السعودية أن أميركا ثبتتها فيه، وضعت السعودية نصب عينيها إيران معتقدة بوهم شديد وسطحي جداً أن اللحظة حانت لإسقاطها وأنها ستبدأ بتنفيذ تهديد بن سلمان بنقل الحرب إلى الداخل الإيراني لإخضاعه.

لقد قاد الغرور السعودية إلى افتراضات وتصوّرات لا يمكن لعاقل أن يناقشها نظراً لجفائها مع المنطق والواقع، ففي حين أنها تتخبّط في اليمن منذ سنتين، وتعجز في البحرين منذ 6 سنوات تعجز عن معالجة الثورة الإصلاحية السلمية، تتنطح إلى مواجهة إيران وتهدّدها بالحرب والمواجهة، رغم أن عليها أن تعلم لو كان لديها فكر او قليل من منطق وقدرة ذهنية على التحليل والدرس، أن إيران التي استعصت على حرب صدام عليها واستعصت على الحصار واستعصت على العقوبات وتمكنت رغم كل ذلك أن تصبح رقماً أساسياً وصعباً في أي معادلة استراتيجية إقليمية ودولية، كان عليها ان تعلم ان صراعها مع دولة هذه قدراتها لن يفضي الا إلى خسارة استراتيجية محتمة، ولكنها أصرت على العداء وأمعنت في سلوك عدواني ضد إيران كانت آخر ترجماته عمليتان إرهابيتان نفذتا الأولى في مرقد الأمام الخميني قائد الثورة الإسلامية في إيران، والثانية في مجلس الشورى البرلمان الإيراني .

في ظل هذا العمى الاستراتيجي السعودي، انسلخت قطر بقرار منها أو بإيحاء أميركي، وهو الأرجح انسلخت عن الحشد السعودي في الرياض، وبدلاً من أن تنتظم في الصف خلف السعودية في العداء لإيران سارت في الاتجاه المعاكس الذي يقودها إلى طلب ودّ إيران بدلاً من عدائها. وهنا وجدت السعودية ان الخنجر القطري يغرس في ظهرها، ويُفسد عليها كلما صنعت ويقطع الطريق على خططها في القيادة والسيطرة. واستعادت السعودية في لحظة حرجة كل تاريخها الأسود مع قطر وقرّرت الردّ العنيف عليها بشكل زجري تأديبي يعيدها إلى الحظيرة ويردع الآخرين من الدول الـ 56 التي جمعتها السعودية في الرياض لتشهد على تنصيب ترامب لها زعيمة العالمين العربي والإسلامي، حسب ظنها.

لقد شنت السعودية وبسرعة فائقة حتى ومن غير إنذار حرباً سياسية واقتصادية وإعلامية ودبلوماسية على قطر، توخت منها تركيعها في 24 ساعة او 48 على الأكثر، وتثبيت زعامتها وردع كل مَن يفكّر بالخروج على تلك الزعامة، لكن الحسابات السعودية لم تتوافق مع الميدان، إذ انه ورغم أن ترامب سارع لدعم السعودية في موقفها مبرراً موقفه بأن قطر راعية ومموّلة للإرهاب، كما أشار في تغريداته وأنها حاضنة للإخوان المسلمين وحماس الإرهابية، وفقاً للتصنيف الأميركي فإن هذا الدعم لم يؤد إلى استسلام قطر أمام السعودية. وهي التي تعلم واقع الموقف الأميركي الحقيقي المنقسم بين مؤيد لها ومؤيد للسعودية، وأن الدولة الأميركية العميقة في معظمها تحتضن قطر التي هي إحدى أهم الأدوات الأميركية التي اشعلت الحريق العربي وموّلت واحتضنت الإرهاب الذي تستثمر فيه اميركا. فقطر مطمئنة إلى أن أميركا لن تتخلّى عنها ومطمئنة إلى ان دورها في التقرب من إيران لن يغضب أميركا، لأنها لو علمت عكس ذلك لما فعلت.

لكن ومن المضحك أن تبرر السعودية حربها على قطر بوصفها راعية للإرهاب، وكأن السعودية راعية للسلوك الملائكي، فالسعودية ووهابيتها ومالها وإعلامها هي الصلب والأساس في الحركات الإرهابية كلها ونشر سياسة التكفير العام الذي يترجم قتلاً وتدميراً وتشريداً وانتهاك مقدسات وأعراض، وهي مع قطر تتنافسان في مجال دعم الإرهاب وتمويله، وقد باتت هناك مسلّمة ثابتة يتعامل معها كل معني بدراسة الإرهاب، أن الدول الثلاث الأساس في المنطقة التي ترعى الإرهاب والتي أضرمت نار الحريق العربي هي السعودية وقطر وتركيا. وبالتالي فإن اتخاذ السعودية للإرهاب ذريعة للحرب على قطر هو أمر يُضحك الثكلى. كما أن شروط سلمان ملك السعودية التي أودعها أمير الكويت الذي جاء يسعى وسيطاً لحل الخلاف والتي هي في معظمها تتصل بالإرهاب، ما هي إلا أقنعة يخفي بها شرطه الأساس المتمثل بالتسليم بالوصاية السعودية والامتناع عن أي اتصال بإيران إلا في الحدود التي تسمح بها السعودية. شروط تشجّعت السعودية على صياغتها بعد أن لمست أن الـ 460 مليار دولار فعلت فعلها لدى ترامب الذي صاغ تغريداته بما يرضي السعودية ويدعمها في حربها هذه.

والآن وبعد أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، فإن السؤال الذي يُطرح هو ما مصير هذا الصراع الحاد الناشب بين الجارين العضوين في مجلس التعاون الخليجي والأداتين الأميركيتين في حريق المنطقة ورعاية الإرهاب. سؤال يُطرح مع تنامي الحديث عن اتجاه لدى السعودية بغزو قطر وعزل حاكمها لتنصيب دمية مكانه يكون خاضعاً للرياض في كل شاردة وواردة، كما هو حال حاكم البحرين. فهل ستُقدم السعودية على غزو قطر وتتطور حربها إلى عمل عسكري؟

للوهلة الأولى ونظراً لطبيعة حكام السعودية وصفاتهم، فإن اتخاذ قرار بالغزو لا يكون امراً مستبعداً بخاصة مع وجود فئة من الحكام تتميز بالعجرفة والغرور والرعونة في التصرف من دون أي حساب للعواقب. فهذه الفئة لو كانت تملك حس التقدير الاستراتيجي الصحيح لما ارتكبت الفظائع في قرارات سابقة منها العدوان على اليمن، ومنها منع الإصلاح في البحرين. وفضلاً عن ذلك فقد يرى حكام السعودية في قرار الحرب أيضاً امتحاناً أو فخاً لإيران، فاذا سارعت إلى نجدة قطر والدفاع عنها عسكرياً، فإنها تقع في فخ نصب لها ونجت منه أكثر من مرة، وإن امتنعت عن النجدة فستقول السعودية إن إيران لا تحمي أحداً وإن سيفنا يطال أينما نريد فتنتصر استراتيجياً.

رغم كل ما ذكر فإن التدقيق في المشهد وتحليله بعمق يقودنا إلى استبعاد مثل هذا الاحتمال، فلا غزو سيحصل ولا فخ سيطبق على إيران وسيبقى صوت الإعلام السعودي القائل بأن الحرس الثوري الإيراني يحمي أمير قطر في قصره كلام لا يصدقه إلا البلهاء، فقطر ليست أكثر من محمية أميركية وخزان نفط وغاز وكنز مالي للغرب. وإذا أرادت اميركا تغيير الحاكم فإنها ليست بحاجة إلى عمل عسكري يُحرج جنودها في القاعدة الأميركية في قطر، فيكفي اميركا ان ترسل موظفاً من سفارتها في الدوحة ليبلغ الأمير هناك بأن عليه الرحيل فيرحل ويسلم الحكم لمن تختاره هي خلفاً له.

وعلى هذا الأساس لا نرى حرباً وغزواً أو جبهة ثالثة تفتحها السعودية مع قطر، ويبقى الصراع بين الأداتين الأميركيتين مسيطَراً عليه تحت السقف الأميركي تدور مجرياته على إيقاع المصالح الأميركية، ويسدّد ترامب فاتورة الـ 460 ملياراً بـ 3 تغريدات على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي «توتير» من دون أن يكون مضطراً لإرسال مبعوث أو إصدار بيان ، وتستمرّ طمأنينة قطر إلى الموقف الأميركي بعلاقتها مع المؤسسات الرئيسية من دون أن تعبأ بالمواقع الهامشية على حد وصف وزير خارجتها. أما نتيجة الصراع فستكون تسوية تُفرض على الطرفين ليس فيها وصاية سعودية على قطر، لأن أميركا بحاجة لتناقض الطرفين في الإقليم عملاً بسياسة ازدواجية الأحصنة التي تلعب عليها في الآن ذاته.