انتهت الحرب في سوريا. استنتاج عملي منطقي يمكن الوصول اليه بمجرد اجراء حسابات عسكرية بسيطة، ورصد المؤشرات السياسية الاقليمية والدولية. مقارنة مجريات الاشهر الحالية بالسنوات الماضية تعزز صحة هذا الاستنتاج. في الاعوام السابقة تدرّج تقدم المجموعات المسلحة الى حد تهديد قلب العاصمة السورية. كانت دمشق تشهد على معارك عنيفة على اطرافها، وتفجيرات وقنابل وتهديدات في أحيائها الداخلية. كانت خطة المعارضة تقضي بالوصول الى قصر الرئاسة للاطاحة بالرئيس الصامد من دون ان يهتز أو يتراجع. كانت الحملات الاعلامية والسياسية والمالية الاقليمية والدولية في أشدها تستهدف الدولة السورية. كانت شرايين البلاد مقطّعة، وكل حدودها مفتوحة للمجموعات شرقا وجنوبا وشمالا وغربا. كانت عواصم عربية واقليمية واوروبية والولايات المتحدة الاميركية وحّدت الجهود لاسقاط دمشق. لكنها صمدت وأعادت لملمة الصفوف والاستعانة بحلفاء والبدء بالهجوم المضاد الذي أدى لتحرير حمص-وسط البلاد، وصولا الى انقاذ حلب والتوسع شمالا الى مسافات قريبة نسبيا عن الحدود التركية و​العراق​ية، وتأمين اغلب الحدود مع لبنان، وفي الطريق نحو الجنوب. يقول خبير عسكري متابع أن اكثر من 80 % من الاراضي السورية ستكون محررة خلال الاشهر القليلة المقبلة. ماذا عن العشرين الباقية؟ هنا النزاع بين وجهتي نظر: روسية-سورية-ايرانية، وأميركية حول مناطق شمالية وشرقية تريدها واشنطن مساحات مستقلة للكرد وحلفائها، كي تكون أشبه بمناطق حكم ذاتي أو مفصولة أو تحت حماية الاميركيين. من يرسم تلك الحدود وطبيعتها ومسافاتها؟ السباق الذي يجري الآن للسيطرة على مناطق كان يحتلها تنظيم "داعش". من هنا يأتي التمدد العسكري السوري لفرض طريق امداد حيوي دائم من دمشق شرقا نحو العراق وصولا الى ايران.

انتهت الحرب في سوريا أيضا، بهزيمة حتمية مرتقبة لتنظيم "داعش" الذي بات يتقهقر في "سوراقيا" (سوريا-العراق) بصورة سريعة. انتهت تلك الحرب حتما بدخول مجموعات المسلحين الآخرين طريق الاحتضار. أين "جبهة النصرة"؟ أين باقي الفصائل؟ لقد باتت مشغولة ببعضها تستبيح مناطق تواجدها وتقتل وتصفّي مقاتليها بالجملة. سباق نحو التسويات هو وليد الاشتباك الاقليمي القائم: سحبت تركيا وقطر مجموعاتها نحو ادلب. ودخلت مجموعات في أطر التسوية في الاستانة وجنيف. تسابق مسلحون الى العودة لبيت الطاعة السوري. الأهم أن ما يجري على صعيد الازمة الخليجية سينعكس مزيدا من المتغيرات في الساحة السورية. تفرّقت الصفوف الداعمة والراعية، وتمزقت عناوين المرحلة الماضية التي ارتفعت في الاعوام 2011 و 2012 و2013 و2014 وبقيت تترنح عام 2015 و2016. لم تعد فرنسا هي اصرار نيكولا ساركوزي ثم فرنسوا هولاند على الاطاحة بالرئيس السوري، ولا أولوية بريطانيا اسقاط دمشق، ولا مطلب الاميركيين ازاحة بشار الاسد، ولا ضغط القطريين قائم ماليا لخلق واقع سوري جديد، ولا قدرة للسعوديين على صدّ المتغيرات السورية، كذلك لم تعد مصر هي مطالبة محمد مرسي بأن يحكم "الاخوان المسلمين" الجمهورية العربية السورية، ولا نيّة للاتراك ولا قدرة ايضا لهم على نسف حكم الرئيس السوري بشّار الاسد. المشهد تبدّل في سوريا. اذا ببساطة: انتهت الحرب. ما هو باق روتوش ميداني نسبي سيكمل الصورة في الاشهر القليلة المقبلة.

تلك الاشهر سترسم المشهد اللبناني بانتخابات ستختلف نتائجها بالطبع عن دورتي 2005 و2009. السبب المباشر هو اعتماد قانون جديد قائم على النسبية. اما الاسباب غير المباشرة فهي متعددة: هل تختلف التحالفات التي طبعت المرحلة الماضية؟ هل تحصل على اساس مصالح داخلية أم بناء على الرؤى الاستراتيجية، وخصوصا بشأن النظرة الى سوريا؟ في لبنان كل شيء ممكن، استنادا الى تجربة الحلف الرباعي الذي حصل عام 2005 في عز الازمة الداخلية والصراع حول المقاومة وسوريا. وأيضا بالارتكاز الى علاقات سياسية استجدت في الآونة الاخيرة بين القوى. بات "المستقبل" حليف اكثر من فريق كان محسوبا على "8 اذار". استجد "اتفاق النوايا" بين "القوات" و"التيار الوطني الحر". صارت عناوين الخطابات أكثر طائفية، كرفع رئيس التيار الوطني الحر وزير الخارجيّة ​جبران باسيل​ شعار "حقوق المسيحيين" في اطار السباق السياسي. مرونة الحزب "التقدمي الاشتراكي" وتمثيله الدرزي وشراكته مع الحزب "الديمقراطي اللبناني" تفرضه شريكا عند اكثر من طرف. ماتت قوى "14 و8 أذار" الى غير رجعة. هناك من هو مستعد لركوب موجة المتغيرات السورية. كل ذلك يعني أن السياسة اللبنانية متحركة جدا.

الفارق الوحيد ان نهاية الحرب السورية ستترجم في اللهجة السياسية، لا في الفرز، باستثناء شخصيات كان جرى استبعادها في السنوات الماضية وخصوصا في الشمال، بسبب الحرب السورية وما رافقها من ضخ اعلامي تشويهي دفع ثمنه حلفاء دمشق الاسراتيجيين. بعض هؤلاء سيعود من خلال صندوق الاقتراع، لأن نهاية الحرب السورية هي سقوط لرهانات مضت، وبالتالي تصحيح الرؤى الشعبية التي ستحمل هؤلاء من خلال صيغة النسبيىة الى ساحة النجمة. لكن على حساب من؟ بالطبع هناك من سيدفع ثمنا ولو نسبيا. قد لا يشهد لبنان كتلا نيابية ثقيلة بالأعداد. بل كتل متوسطة الاحجام ومتواضعة عدة تتيح صناعة التكتلات الوطنية. الكل يدرك تلك المعادلة. المرحلة تغيّرت. بالاضافة، هل يكون لبنان بمنأى حقيقي أيضا عن الازمة الخليجية؟ رسميا وشعبيا تكمن مصلحته بالنأي بالنفس لوجود عشرات الاف العائلات التي في السعودية وقطر. سياسيا هناك أيضا تداعيات قد ترصد في التحالفات، فتبعد مثلا الجماعة الاسلامية عن "المستقبل". فلنراقب اذا نتائج الشمال وصيدا على الاقل.