بفارغ الصبر ينتظر شرقٌ نازفٌ رأس كنيسة كاثوليكية جديدًا يمدّه بمزيدٍ من شعارات الصمود ويؤوي ناسه في أوقات ضعفهم حيث سقف الكنيسة يحمي بإيمان راسخ لا بباطون مسلّح. صبرٌ فارغ كشرق يكاد يكون فارغًا من مسيحييه على اختلاف منابعهم سيثمر بعد ساعاتٍ بطريركًا جديدًا لطائفة الروم الملكيين الكاثوليك خلفًا للبطريرك المستقيل غريغوريوس الثالث لحام.

من عين تراز وعلى امتداد 5 أيام سيتصاعد دخانٌ أبيض من إحدى قاعات السينودوس الذي يهدف التئامه في الدرجة الأولى الى انتخاب بطريرك جامعٍ للكنيسة الكاثوليكية يباركه الحبر الأعظم الذي سبق وقبل استقالة لحام ودعا مطارنة الشرق الكاثوليك الى اختيار الرجل المناسب للوضع المسيحي المأزوم.

تنافس “جغرافي..."

هي محطة تأمل ورياضة روحية يعيشها المطارنة المجتمعون المنعزلون عن العالم الخارجي وضغوطه، تفضي في آخر أيام السينودوس الى الارتقاء باسم جديد لترؤس الكنيسة الكاثوليكية المشرقية. وبعيدًا من التكهّنات التي نادرًا ما كانت تصيب وليس انتخاب البابا فرنسيس كاسمٍ خارج عن نطاق التوقعات، وقبله البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، سوى خير جواب، تدور الأسماء المتنافسة في حلقةٍ من نقاط القوة والضعف. ولعلّ التنافس الأكبر إنما يتخذ طابعًا جغرافيًا في حالةٍ لا يرتضيها الفاتيكان، حيث ترتفع صرخةٌ لبنانية بضرورة انتخاب بطريرك لبناني بعدما شغل عددٌ وافرٌ من المطارنة السوريين هذا المنصب، وبالتالي حان دورُ لبنان انطلاقًا من جملة عناصر: أولًا، وجود أسماء بارزة في الكنيسة الكاثوليكية المحلية أثبتت كفاءتها وقدرتها على قيادة أبناء بيعتها الى برّ الأمان، وحكمتها في مواقفها حتى في غمرة الأزمات. ثانيًا، كون لبنان البلد الشرق أوسطي الوحيد الذي يترأسه رئيسُ جمهورية مسيحي، وبالتالي لا بدّ من استكمال هذا الامتياز بمنحه شرف انتخاب بطريرك للطائفة الكاثوليكية منه. ثالثًا، كون لبنان مهدًا صريحًا للديانة المسيحية في شرق نازف وكون هذا البلد ما زال يحتضن النسبة الأكبر من المسيحيين مقارنة بإجمالي سكانه، وما زالوا يشكلون كتلة وازنة ديموغرافيًا وسياسيًا.

الكفة لمطران سوري؟

كلُّ هذه العوامل السالفة قد تُسهِم في ترجيح كفّة مطران لبناني على حساب زملائه، ولكنّ اصطدامًا مفاجئًا بجدار بعض العراقيل يعيد المشهدية الى الواقع المعاش ويُحدث خللًا في كفة الميزان لصالح مطران سوري جديد: أولًا، نسبة الأصوات المتوقعة من المطارنة العرب والتي ترجّح كفة أكثر من مطران سوري. ثانيًا، الواقع البشع الذي تعيشه سورية والذي يوجِب دفعًا معنويًا متجددًا للمسيحيين الصامدين في أرضهم من قبيل انتخاب بطريرك جديد سوريّ الجنسية كرسالة لهم وللعالم أجمع. ثالثًا، صعوبة تنقّل أي بطريرك لبناني جديد بين لبنان وسورية حيث مقرّ إقامته، وبالتالي قد تكون مهمة بطريرك سوري أكثر سهولةً في هذا المجال لا سيما أن معظم نشاطاته تتركز في سورية أكثر من أي بلدٍ آخر. كلّ ما سبق يعزز حظوظ المطارنة السوريين وعلى رأسهم جوزيف عبسي وهو من مواليد دمشق والذي بعد خدمة طويلة في الكنيسة عيِّن نائبًا بطريركيًا في دمشق في 13 تشرين الأول من العام 2006، ويُعتبر مقربًا من البطريرك المستقيل لحام والذي نال منه السيامة الأسقفية بمعاونة المطران يوحنا منصور والمتروبوليت جوزيف كلاّس في كنيسة القديس بولس في حريصا في العام 2001. أما الاسم الثاني فهو جان جنبرت المولود في حلب والذي أصبح كاهن رعية في حلب من العام 1968 إلى العام 1972. انتخبه السينودس في 2 آب 1995 متروبوليت حلب خلفًا للمرحوم المطران ناوفيطوس إدلبي.

اسمٌ لبناني

وفيما ترتفع أسهم المطرانين السوريين عبسي وجنبرت، لا يغيب اسمٌ لبناني عن بورصة الأسماء المتداولة وهو المطران الشاب جورج بقعوني الذي وُلد في بيروت في العام 1962، وبعد مسيرة كهنوتية غير قصيرة رُسم ميتروبوليتًا في العام 2005 وراعيًا لأبرشية صور للروم الملكيين الكاثوليك أواخر العام نفسه.

البابا يبارك!

في عزلةٍ يعيش المطارنة في عين تراز من دون أن يكونوا على تماس مع العالم الخارجي. عزلة تفرض عليهم في حضور السفير البابوي في لبنان المطران كبريال كاتشا الاقتراع مراتٍ عدة الى حين التوصُّل الى الاسم الذي ينال النسبة الأكبر من أصوات الأساقفة المجتمعين. وفي هذا المضمار، علمت “البلد” من مصادر كنسيّة مواكبة أن “البابا فرنسيس لا يتدخّل في العملية الانتخابية لقناعته بأن أساقفة الشرق أكثر دراية بما يريدون والى أي مطران سيسندون مهمّة صعبة ولكن غير مستحيلة خصوصًا أن توقيتها يحمل الكثير من علامات الاستفهام مع تطوّر أزمة الوجود المسيحي في الشرق الأوسط وسط كل هذه الحروب وأفعال التهجير والتطرّف. ولكن البابا يخشى في المقابل وصول شخصية مستفزّة الى رأس الكنيسة أو أخرى لديها ملفاتٌ وخلافاتٌ جمة، وبالتالي يكون الانتخاب تمديدًا لأزمة البطريرك لحام الذي نشبت بينه وبين أساقفةٍ عدة خلافاتٌ وصلت الى الفاتيكان وأوجعت رأس الحبر الأعظم. أيًا تكن، يثق البابا بخيار الأساقفة الأجلاء ولا ينظر الى جنسية البطريرك الجديد بقدر ما يعوّل عليه نظرًا الى حساسية موقعه واهتمام الحبر الأعظم بقضايا مسيحيي الشرق، ليكون خير قدوةٍ لهم وخير ملهم وخير معيل وخير مثبّتٍ في أرضهم”. وترفض المصادر الكنسية التسليم بكلامٍ صحافي عن ضغوطٍ سياسية أو مالية، مشيرةً الى أن كل مطران سينتخب حسب حريّة ضميره وبوعي الى خطورة الأزمة التي تشهدها الكاثوليكية في هذا التوقيت بالذات، وبالتالي لا يمكن الرضوخ لضغوطٍ سياسية تتخذ شاكلة التمنيات في محاولةٍ تلطيفية، ليبقى كل مطران سيّد قراره".

حتى آخر جرس

قريبًا يُقرع جرسٌ مشرقي جديد مكرّسًا روح التجدّد في كنيسة كاثوليكية يتخذها البابا فرنسيس ذراعًا يُمنى له في منطقةٍ هي الأكثر عرضةً اليوم وقبله الى سياسات التفريغ الممنهج.