كان الغزو الثقافي في الماضي يتّخذ هذه التسمية كونه كان مباشراً يمكن رصده من خلال الفضائيات أووسائل الاعلام التقليدية لكنّ المسائل قد تغيّرت تماماً في الزمن الحالي بعدما تحوّلت حقول التواصل من مرسل ومتلقٍّ الى إنتفاء المتلقي لمصلحة التفاعلات التي تشيعها مواقع التواصل الاجتماعي. إنّ هذه المواقع تقلب الدنيا وتعمل على تغيير المعلومات وتشويهها وتلغيمها بما يشوّه الأركان المعرفية والسلوكية والفكرية للأفراد، حيث لا حدود لمجتمعات المبحرين والمتصفّحين وحيث القدرة على أن نجد أنفسنا أمام أجيالٍ مخيفة وكأنّها ليست أجيالنا.

أمّا اليوم، فيعتبر الامن الفكري من المفاهيم الحديثة التي تشغل بال الدول بعدما ظهرت مؤخرا وإرتبطت باستخدام الانترنت وفق تنخيل أدوات مشاعيات المعرفة وتنظيفها بما يحفظ أنساق القيم التاريخية. فأن يتعرض الافراد من كافة الأعمار والأجناس والثقافات للرسائل الاعلامية التي تحفل بها المواقع بالسلبيات تدخل حيّز التأثير المباشر في الفكر والقناعات والقيم مما قد يولد لدى القاصرين أو أصحاب المناعة النفسيّة الضعيفة افكارا متطرفة غريبة على المجتمعات والثقافات والأديان. بهذا المعنى تبحث الدول عن إستراتيجيات لها علاقة وثيقة بصيانة الأمن الفكري للناس.

طبعاً هي معضلة كونية. لا تنحصر مفاعيلها وتأثيراتها على الأمن الفكري أو التفكيري العربي والإسلامي، بل على أفراد المعمورة بعدما تحوّلت المواقع الى حاجات قد تتجاوز في أحيانٍ كثيرة الحاجات البيولوجية، لا بل تتلفها وتهدّمها الى مستويات قد تبدو أحياناً غير قابلة للعلاج. ظاهرة الإنتحار وتفشّي العنف تنضوي تحت هذه الخانات المستوردة. وقد تخرج تلك المخاطر عن سيطرة الأهل والمدارس

لكونها ترتبط بالبناء أو العمارات النفسية والتربوية والفكرية لأفراد ذلك المجتمع وبخاصة شرائح الشباب منهم لسرعة تأثرهم بالأحداث واندفاعهم أو فتونهم الطفولي بالجديد. قد أسمح لنفسي في هذا المجال التشديد على أهميّة الثقافة الدينية من حيث قيمها ومثلها الى الحصانة الثقافية والفكرية وإغناء الوعي لدى أولادنا وأحفادنا المراهقين المشلوحين فوق صفحات تلك المواقع بما يجعلهم طرائد طريّةً لما يتم تداوله من صورٍ وأفلام تكاد تنحصر في العنف والجنس وهما أدنى غريزتين تتحكّمان بصاحبهما وتنسف كلّ ما يتعلّق بالامن الفكري لأفراد المجتمعات.

إن عملية نشر المعلومات والحقائق والصور المفبركة وبشكل متواصل ومتكرر في يجعلها مسلمات لدى الافراد وان كانت غير حقيقية فنجد العديد من المقولات المنشورة منسوبة لغير اصحابها بالإضافة لنقلها بطرائق غير سليمة بحيث تحرّف محتوياتها فيجد المبحر نفسه تائهاً خجولاً وغير قادر على تمييز الحقائق بل غير قادر على سؤآل من حوله من أهله أو معلّميه. ولهذا نرى الكثير من المجتمعات مساحات سهلة وخصبة للنميمة والتحقير والتخريف والتخويف ومرتعاً خصباً أيضاً لتداول الاشاعات والاخبار الكاذبة وبشكل إرادي ومقصود ومدروس لتحقيق نتيجة معينة ونشر معلومات خاطئة او تجنيد الممكن من المتصفحين لتبني فكر متطرف او جذبهم للانضمام لجماعات ارهابية أو فاسقة للقيام بأعمال عدائية ضد بلادهم او مجتمعاتهم .

ومن نتائج تداول وتناقل الافكار والمفاهيم المغلوطة بين الافراد من خلال مواقع التواصل الاجتماعي اختلاط وتداخل المفاهيم بين متصفحي تلك المواقع حيث يتم استخدام العديد من المصطلحات والمدلولات دون معرفة معناها الحقيقي، وسبب استخدامها حيث يتم اضفاء اطار مطاط لتلك المصطلحات فيتم تفسيرها واستخدامها وفقا لأيديولوجيات معينة لتحقيق غايات معينة تغذي النعرات الطائفية والفكر المتطرف وغيرها من الافكار الهادمة للمجتمعات. طبعاً، يمكن في هذه الفوضى العارمة أو المشاعية في دفق الرسائل أن تنفذ الجماعات الحاذقة جدّاً في إدارة المعلومات بإستغلال وجذب المتصفحين وتجنيدهم لأعمال تخريبية وتفجيرات لا علاقة لها بالقيم التي يستغلّها إداريو تلك المواقع. لذا فإنّ المواد الالكترونية التي يتمّ بثها وتسريبها من خلال تلك المواقع باتت المواد الأكثر إهتماماً والأشدّ تهديداً لأمن

الدول والأشخاص وبخاصة الدردشة الالكترونية التي يمكن من خلالها ان يتم تبادل المعلومات المهدّدة فعلياً للأمن القومي وتجنيد الشباب للعمل ضمن الخلايا الارهابية والتنظيمات المتطرفة التي تعمل لحساب قوى معادية تستهدف امن الأوطان واستقرارها. وهناك دول وأجهزة كبرى تقوم بتنفيذ إستراتيجيات خطيرة عبر شن حملات الكترونية واسعة النطاق تقوم من خلالها بنشر معلومات واخبار وصور وأفلام تستهدف اثارة الفتن وزعزعة الاستقرار في دول شرق أوسطية، تحشد عبرها الافراد وتنظيماتهم المنضوية في منظمات أو حركات وجمعيات لها طابع مدني وتلصق بها أسماء لجمعيات همّها الديمقراطية والحريّة وتحرير المرأة وحقوق الطفل وغيرها من الأفكار التي تستهدف في نهاية المطاف اثارة الفتنة واذكاء النعرات الطائفية والانقسامات في داخل المجتمع الواحد فتدفعه الى حالات من التنابذ والإنقسام والتحفيز على التخريب والتدمير من دون ان تحرّك جندي واحد تابع لها من مكانه.

يمكن التأكيد عبر عشرات أطاريح الدكتوراه والأبحاث التي ناقشناها العامين الفائتين ان مواقع التواصل الاجتماعي باتت من أشرس الأسلحة غير المباشرة المستخدمة لتحقيق اهداف سياسية ذات سلبيات ومخاطر كبرى على استقرار الدول والمجتمعات كونها الباب بل السجادة الحمراء التي تتسلل فوقها الفوضى والفتن والرفض والتكسير والتخريب.

لماذا هذه الإضاءات أيضاً وأيضاً؟

كي نمسك مجتمعاتنا وأجيالنا ونصونها من هذه المظاهر المخيفة، وكي نحرّض بموضوعية كاملة على الإنصراف الى التفكير الجدّي، لا بالمراقبة الدقيقة الحاصلة، بل لوضع استراتيجيات حديثة تدرس وتحلّل وتقبل وتحجب المواقع مهما كانت مضامينها مغطّاة بأساليب حوارية قد تكون مسمومة. الأمن الفكري أهم من الأمن القومي لأنّ فشل الأجيال أو تفشيلها هو الطريق السهل لتفشيل الأوطان، خصوصاً وأنّ الأجيال وتحت عناوين المعاصرة والحداثة والتحديث والموضة سرعان ما تنزلق فرائس ضعيفة للسياسات التي تستهدف هدم مجتمعاتنا بتدمير فكر شبابنا.

ولا ننسى أن الأنبياء الذين خرجوا من هذه الأرض نحو العالم ما كان بحوزتهم هواتف خلوية متعددة الأبعاد أو مواقع إجتماعية تبث أفكارهم وقيمهم لتخليص البشرية من أمراضها ودفعها نحو القيم. القيمة مضمون ليست بحاجة الى أدوات لتسافر وتجوب وتمكث في الأرض بقدر ما هي بحاجة الى صوتٍ ومعنى يتجاوز الثقافات واللغات والمصالح.