مثيرٌ أن تمسح قوى 14 آذار (السابقة) كل ما فعلته وبذلته في لحظةٍ ما، وأن تعودَ راضيةً مَرْضيّةً إلى الخيارات الكارثية. فتركيبةُ السلطة التي تقيمها اليوم، مع خصومها (الافتراضيين) هي تكرارٌ للنموذج الذي قام في مطلع تسعينات القرن الفائت. هذه السلطةُ جدّدت تركيبةً انتهت ذات يومٍ بالكوارث. فهل تكون في طريقها إلى كوارثَ جديدة؟

بعد الطائف، وجد السوريون أفضل صيغة توفّر لهم ظروف السيطرة على لبنان واستثمار منافعه إلى ما لا نهاية. عقدوا صفقة مع الولايات المتحدة والغرب والمملكة العربية السعودية تسمح لهم بأن يكونوا وكلاءَ حصريين لتنفيذ الطائف، مقابل خدمات وتطمينات يقدّمونها إلى القوى الدولية والإقليمية.

إستعان السوريون برجل الطاقات الاستثنائية، الذي يحظى بثقة السعودية والغرب، الرئيس رفيق الحريري. وأتاحوا له ولفريقه، في الحكومة والمؤسسات، أن يديروا مشاريع إعادة الإعمار وإطلاق الاقتصاد والتنمية.

لكنهم في العمق، كانوا هم يستفيدون من كل شيء:

1 - الشراكة المنظورة وغير المنظورة في المكاسب، وهو ما يعرفه جميع الذين عاشوا تلك المرحلة. ويقدّرها الخبراء بمليارات الدولارات.

2 - إلهاء الجميع بشؤون الاقتصاد والمال والمشاريع فيما هم انصرفوا إلى إحكام قبضتهم الحديدية على القرار السياسي والأمني والعسكري.

3 - الاستفادة من وجود شخصية كالرئيس رفيق الحريري لإقناع العرب والغرب بـ»تطبيع» وجودهم ودورهم في لبنان.

4 - وضع الجميع في دهاليز التناقضات، داخل الحكم والحكومة والمؤسسات، وتشجيع هذه التناقضات ودعم كل طرف ضد آخرين استنسابياً، ما يتيح لدمشق في النهاية أن ترسم الحدود في ما بينهم. والوسيط رابح دائماً.

الذين واكبوا الرئيس رفيق الحريري، في تلك الفترة، يقولون اليوم: كنا نجرِّب المقاومة السلمية. في اعتقادنا أنّ تعملق لبنان بالإعمار والتنمية سيعيده إلى موقعه الدولي، ويقلّص تلقائياً نفوذ سوريا. وفي أيّ حال، هل كان لنا أن نفعل سوى ذلك، فيما كانت الرعاية السورية للبنان تحظى بغطاء دولي وإقليمي؟

هؤلاء يقولون: حاولنا أيضاً إغراق القوى السياسية اللبنانية كلها بالاقتصاد والتنمية، لعلّ ذلك يُضعف العصبيات ويحدّ من رهان «حزب الله» على السلاح ودوره واعتبار لبنان ساحة صراع إقليمي. لكنّ هذا الطموح انتهى بالضربة السورية القاضية في العام 2005.

فهل ما يجري اليوم هو تكرار لنموذج التسعينات وسيناريو الرهانات المتناقضة؟

هناك مَن يقول بذلك. فالصفقة التي بها جاء الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري إلى السلطة، في خريف العام الفائت، تبدو طبعةً ثانية منقَّحة قليلاً من الطبعة السابقة:

الرئيس سعد الحريري تخلّى عن مرشحي 14 آذار فجأة ليوافق على مرشح 8 آذار، العماد عون. واستلحقت «القوات اللبنانية» نفسها فانخرطت في الصفقة، بعدما باتت أمراً واقعاً.

غرابة تلك الصفقة أنها جمعت المتناقضين حول المائدة. وكل يبحث عن حصته «حسب الشطارة». ولم يسبق أن كانت السلطة خليطاً من «أشباه المعارضين» و«أشباه الموالين» كما هي اليوم، ضمن «كوكتيل» من الباحثين عن المصالح.

لم يتذكَّر أركان 14 آذار شيئاً من العناوين السيادية التي لطالما نادوا بها ودفع الكثيرون ثمنها دماً. وانخرط هؤلاء في مسارٍ دسمٍ يحمل العنوان الاقتصادي- المالي- التنموي: نفط وغاز وكهرباء وسدود واتصالات ونفايات والكثير سوى ذلك. ويحاول بعضهم إقفال باب المطالبة بالشفافية تماماً، ويعملون لترهيب الأصوات الاعتراضية.

كل ذلك، و«حزب الله» يتفرّج مرتاحاً على الآخرين يتصارعون على الحصص والمكاسب والغنائم. وفي النهاية، نجحت خطة استعادة المعادلة السابقة: خُذوا المشاريع والمنافع والمكاسب، دَبِّروا حالكم بها، واتركونا نشتغل بهدوء شؤون السياسة والأمن!

في عبارة أخرى، أنتم لستم في حاجة للتعاطي في الأمور الاستراتيجية. اتركوها علينا. تكفيكم التفاصيل.

وفيما المتصارعون يتصارعون على الحصص، سيبدأ مسارُهم الانزلاقي، المرسوم لهم، في السياسة والأمن. وسواءٌ كان منطقياً التنسيق مع نظام الرئيس بشار الأسد في ملف النازحين أو لا، فإنّ السجال الجاري اليوم حول هذه المسألة ليس سوى عيِّنة أولى. وقد يتمكّن بعض الركاب من النزول باكراً من الموكب إذا استشعروا مرارة المصير، ولكن ذلك سيصبح متعذّراً كلما طالت إقامتهم في الموكب... وطابت!

في البلد اليوم، الجميع موالاة، في مقابل جبهة اعتراضية يخطّط أركانها للمواجهة في كل لبنان، ومهما كان الثمن. وربما في داخل السلطة مَن يحسدهم على هذا الموقف ويتمنّى الوقوف معهم، لكنّ جنّة السلطة لها حساباتها.

ما هي العواقب المتوقعة لهذه الحالة المأزومة؟

يجزم العارفون أنّ عنوان التنمية والاقتصاد والمشاريع الذي يرفعه البعض سيحوّل السلطة إلى مجرد مقاصّة لتبادل المكاسب والمنافع، وسيتلهّى الجميع في توزّع الغنائم، وسيتلوَّث هذا وذاك بشبهة الفساد، فيما سيبقى «حزب الله» محافظاً على صورة المترفّع عن الصغائر، والممسك بالأمور الاستراتيجية، أي بالقرار السياسي الحقيقي.

الخشية أن يصبح بعض هؤلاء «ممسوكاً» بهذا الملف أو ذاك، فيما «الحزب» مرتاح ويتباهى على الجميع بخوض غمار معركة ضد الإرهاب والإحتلال... وسيفتح الباب للتعاون مجدّداً مع نظام الأسد. والمادة موجودة ولا سبيل لتجاوزها: النازحون.

وهكذا يصبح مشروعاً طرحُ السؤال: هل سينجو لبنان من تكرار مأزق السيناريو السابق؟ العارفون بالأمور خائفون. ولا تشفع سوى الضمانات الدولية والإقليمية- المبدئية- بعدم سقوط لبنان.