عندما اجتاحت داعش الموصل ومنها الأراضي العراقية الوسطى وبلغت الحدود مع إيران وباتت قادرة وبالسلاح المواتر الخفيف أن تشلّ الحركة على المنطقة الحدودية هناك، خرجت أصوات «مسؤولة» من أميركا قائلة إن داعش تنظيم عسكري فائق القوة، بإمكانه أن يحقق ما يريد ويجتاح المنطقة التي رسم حدودها على مساحة 6 دول عربية، ثم أضافوا بأن داعش قد يلجأ الى السلاح النووي وأنه قد يمتلك أنواعاً من سلاح الدمار الشامل، وبالتالي فإن هزيمته تتطلّب بين 10سنوات على أقل تقدير ويمكن أن تصل الى 30 سنة.

طبعا رسمت أميركا هذه «الصورة الأسطورية» لداعش لأنه صنيعتها وأداتها في تنفيذ مشروعها الاستعماري الذي فشلت في إرسائه عبر عقدين من الزمن، وقالت بذلك من أجل تثبيط عزيمة اهل المنطقة وحملهم على التسليم بالأمر الواقع أولاً، وعدم القيام بمحاولات دفاع ضدها، لأن الدفاع في مثل هذه الحالة برأي الأميركيين انتحار وجلب الضرر الإضافي للنفس من جهة ومن جهة ثانية من أجل تبرير إقامة تحالف أميركي دولي خارج الشرعية الدولية ومن غير أي قرار أو موقف من مجلس الأمن، تحالف يمكّنها من العودة إلى العراق لإقامة القواعد العسكرية الأميركية فيه تلك القواعد التي أرادتها ولم يستجب العراق لإرادتها في العام 2010، عندما تمّ توقيع اتفاقية الإطار الاستراتيجي للتعاون الأميركي العراقي الأمني.

أمام هول المشهد هذا، كان على العراقيين أن يختاروا بين الاستسلام لاحتلال جديد بشع جداً، ثم الاتكال على من أنتجه أي الأميركي حتى يزيله بعد عقود يفتت فيها العراق ويُلغيه كدولة، كما فعل في ليبيا، أو أن يعمل بالقاعدة الذهبية «ما حكّ جلدك مثل ظفرك، فتولى أنت جميع أمرك». وهنا وبوجود مرجعية دينية واعية بعيدة النظر وبوجود قيادة سياسية عراقية شجاعة، ومراهنة على الشعب العراقي والاخوة والأصدقاء في المنطقة الذي لهم باع في مقارعة الاحتلال والعدوان الأميركي، اختار العراق طريق ذات الشوكة وقرّر مواجهة الإرهاب الأميركي ليقطع الطريق على أميركا في تفتيت المنطقة والسيطرة عليها واجتثاث تاريخها وتغيير ديمغرافيتها.

ونجح رهان العراق ونجحت خياراته وتمكّن بعد 3 سنوات من الاجتياح الإرهابي الذي احتل نصف ارضه تقريبا، ونجح في تطهير أرضه من هذا الطاعون السرطاني الخبيث الذي صنعته اميركا وجاءت به لاستباحة العراق والمنطقة واليوم اذ يحتفل العراق والمنطقة ومحور المقاومة وأحرار العالم المناهضون للمشروع الاستعماري الاحتلالي الصهيواميركي بهذا النصر العظيم، فإن من المفيد أن نتوقف عند امرين: الأول تحديد مَن صنع النصر والثاني العِبر من هذا الإنجاز الذي سيُكتب عنه الكثير، لأنه من طبيعة استراتيجية تغييرية ذات آثار تتعدّى العراق والمنطقة لتنسحب على العالم ونظامه الدولي الجديد.

وفي النقطة الأولى نجد أن النصر على الإرهاب الداعشي في الموصل وتالياً في العراق كله لم يتبقَّ من أوكار وجزر لداعش في العراق إلا 6 مناطق غير متواصلة ومحاصرة يصعب إمدادها ويستحيل بقاؤها ولم يعد الإجهاز على داعش فيها إلا مسألة وقت والنتيجة في الامر محسومة لصالح العراق طبعاً وبوقت لا يُقاس بالأشهر بل بأقل من ذلك بكثير .

ونعود الى المنظومة التي صنعت هذا النصر، ونجد وبشكل موضوعي أنها تتشكل من اربعة اركان رئيسية كان لكل منها دوره وموقعه في صنع القوة القادرة التي هزمت داعش وحررت العراق. وهي:

الركن الأول كان فتوى المرجعية الدينية بالجهاد الكفائي الذي هو بحسب الفتوى واجب على الجميع، وإذا قام به البعض سقط عن الآخرين. وقد كان لهذه الفتوى أثرها السحري في نفوس العراقيين نظراً لدورها في تحديد العدو وإجلاء الصورة وإزالة الشبهة وتحديد المسؤولية والواجب في مقارعة العدو الإرهابي دفاعاً عن النفس والعرض والأرض والمقدسات.

الركن الثاني الشعب والاستجابة الشعبية والهبة المنقطعة النظير التي تُرجمت في اتجاهين: اتجاه يعني الضباط والجنود في الجيش العراقي وارتفاع حماسهم للقتال الأمر الذي من شأنه رفع القدرات العسكرية والمعنويات لدى الجيش العراقي، والثاني تشكيل القوات العسكرية الرديفة الموازية والتي تمثلت بالحشد الشعبي العراقي الذي كان مفاجأة المرحلة والتي صدمت المخطط الاستعماري. مفاجأة أذهلته وأربكت والأدوات وكل مَن راهن على الإرهاب واستثمر به.

الركن الثالث مبادرة محور المقاومة للمساعدة وفقاً لاحتياجات الميدان والأخطار. وهنا يبرز بشكل رئيس دور حزب الله في لبنان الذي لبّى وعلى عجل متطلبات المرحلة وأرسل الخبراء والمدربين و…. من اجل تأطير وتنظيم وتدريب وتقديم النصح في تشكيل وحدات القتال، وتقديم المشورة في العمليات القتالية، كما ويبرز دور إيران التي أرسلت خبراءها وفتحت مخازنها من السلاح والذخيرة واللوجستية للجيش العراقي والحشد الشعبي، فعطلت مفاعيل الحصار الذي تمارسه أميركا على هذا الجيش لتمنعه من امتلاك القوة التي تمكنه من الدفاع الناجح.

الركن الرابع. القيادة السياسية العراقية الشجاعة الكفوءة. التي لعبت دوراً هاماً في المواجهة وعلى شتى الصعد العسكرية الميدانية والسياسية والمعنوية والتنظيمية. لقد واجهت هذه القيادة ضغوطاً شتى من الداخل والخارج، ضغوطاً لو رضخت لها لكانت عرقلت أو عطلت مفاعيل الهبة الشعبية ومفاعيل المساعدة من محور المقاومة، ولكانت أدخلت العراق في مواجهة بين أبنائه بدلاً من أن تكون المواجهة مع الإرهاب. لكن الخيارات والقرارات الحكيمة للقيادة العراقية عطلت مؤامرات الاستعمار الإرهابي وشرعت الحشد الشعبي بقانون اعتمده مجلس النواب العراقي، وشرعت المساعدة من محور المقاومة، كما ورفعت مستوى التعاون والتنسيق مع مكوّنات محور المقاومة بما فيها سورية، وكان لقرار إقامة غرفة عمليات بغداد الرباعية الأثر المعنوي والميداني الهام على هذا الصعيد.

هذه هي الأركان الأربعة التي قامت عليها المنظومة العسكرية العراقية التي سحقت داعش ومَن خلفها، وطهّرت العراق من شرّها وخبثها. وهنا قد يسأل سائل أين دور التحالف الأميركي في هذا الشأن؟ وردنا ببساطة أن أميركا لم تنشئ تحالفاً، وتأتِ به الى العراق من اجل محاربة داعش بل هي أصلاً أنشأت داعش من اجل ان تعود الى العراق وفي وجودها كانت تراوغ وتناور وتهول وتعرقل وتريد أن تفرض خططاً وتستبعد قوى كل ذلك من أجل إطالة أمد الصراع لتجذر وجودها أكثر، ولكنها لم تفلح في كل ما صنعت وكما فشلت داعش أداتها فشلت هي في مناوراتها. وبالتالي فان اميركا بريئة من النصر الذي تحقق براءة الذئب من دم يوسف.

هذا في صنع النصر، أما في الدروس والعبر التي تستفاد من حرب العراق على الإرهاب وإسقاط الخرافات ودولة الخرافة، كما وصفها العرقيون أنفسهم فيمكن ذكرها أربعة أيضاً، هي:

إن ما يقوله وما يريده الغرب وأصحاب المشروع الاستعماري ليس فرضاً مفروضاً، وليس قدراً لا يُردّ، بل إن الشعب إن أراد يكن في إرادته إنْ نُظّمت وفعّلت ووجّهت في الاتجاه الصحيح قدرة تكسر العدوان وأدواته. وهنا يُسجل للعراق أنّه وفي أقل من عقدين هزم الاحتلال الأميركي مرتين مرة بصيغته المباشرة ومرة بصيغته غير المباشرة.

إن تبادل الدعم والمساندة والمساعدة بين مكوّنات المنطقة وعناصرها الرئيسية، يمكن أن يبني القوة العسكرية التي تُنزل الهزيمة بالأحلاف الدولية حتى ولو كانت أميركا بذاتها هي منشئة هذا الحلف وقائدته.

إن التشرذم سلاح العدو، والوحدة هي سلاح الشعب الماضي. وهنا أكد العراق انه بتوحد كلمته يمتلك القوة التي تمنع أحداً من أن يهزمه، أيّ أحد، وإنْ تشتت فإن أحداً لن ينصره.

أما الخلاصة الاستراتيجية التي لا بد من الإضاءة عليها، وهي العبرة الأهم، فهي درس لكل من يُعتدى عليه. درس مضمونه أن لا تركن لمحتل ولا تخشى محتلاً. وها هو العراق بعد لبنان ومقاومته يسجل بمقاومته أيضاً هزيمة للمشروع الاستعماري ويجعل تموز 2017 عراقياً يعانق تموز 2006 لبنانياً، ومنهما سيكون تموز انتصار المنطقة التي أظهر محور المقاومة أنه لن يرتضي إلا بأن تكون منطقة لأهلها ولن تكون للأميركي مستعمرة مهما تغطرس وتجبّر، وما هي الا فترة قصيرة وتكون محطة الانتصار الاستراتيجي الكبير في سورية.