لم يسبق منذ بدء الازمة السورية عام 2011 أن توزّع اللبنانيون والسوريون في اصطفافين متقابلين. كان لبنان منقسما في الشكل والجوهر بين تيارين: أحدهما يؤيد ​الدولة السورية​، وثانيهما يدعم المعارضين فيها. ازداد الاصطفاف اللبناني حدة مع توسع الازمة على مساحة جغرافية سوريا. يومها كان الحل يكمن في الدعوة الى النأي بالنفس لمنع انتقال الازمة الى الاراضي اللبنانية. لكن مجريات الميدان عكست انغماسا لبنانيا عمليا ربطا بالتحولات الاستراتيجية.

جاءت مداهمات مخيمات عرسال التي نفذها ​الجيش اللبناني​ تظهّر اصطفافا جديدا، رغم انه كان مضبوطا منذ سنين. القصة بدأت قبل المداهمات. يوم بدأ ​النازحون السوريون​ بالوصول الى لبنان، كان هناك من يصطف الى جانبهم ويفتح بيوته لهم. كان معارضو الدولة السورية يراهنون على اسقاط النظام خلال اسابيع. اعتقد المنحازون الى جانب المعارضين ان احتواء النازحين لن يطول. تداخلت المصالح مع العواطف مع الحسابات الخاصة أو الخاطئة، وجميعها انتجت عشوائية في التعاطي مع قضية اللاجئين السوريين.

لم يبق الاصطفاف في شكله الاول طويلا. دفع للانقلاب عليه تمدد الارهابيين، وتغلغل المسلحين في صفوف النازحين، وسوء تعاطي المجموعات مع اهالي عرسال مثلا. سرعان ما تبدلت الحسابات، فظهرت الاعتراضات ضد النازحين اولا في عرسال، رفع من منسوبها التنافس على سوق العمل. هنا شعر لبنانيون ان النازح السوري "يحتل" باب رزقهم. لم يعد التمايز قائما بين متعاطف مع المعارضة او النظام. صار السوريون في كفّة واحدة عند شريحة لبنانية واسعة. خصوصا ان بعض الشرائح اللبنانية تخزّن في الذاكرة حقدا على كل السوريين من دون استثناء. ظهر ذلك في رفع لافتات للحد من حركة وتجول السوريين، او بالتظاهر لوقف منافستهم اليد العاملة اللبنانية او سوق الإنتاج والتجارة. المشكلة الأساس تكمن بصغر المساحة اللبنانية على المستويات الجغرافية والديمغرافية والاقتصادية. انطلق اللبنانيون من عوامل قلق: الامن، وقلة الحيلة، وسوء الوضع الاقتصادي، الديموغرافية، والخوف من الاقامة السورية الدائمة.

جميع تلك العوامل قرّبت المسافات بين اللبنانيين، وباعدت المسافات بينهم وبين النازحين السوريين. بالمقابل، شعر السوريون بما اعتبروه "عنصرية" تزداد ضدهم.

لم تأت مداهمات الجيش اللبناني في مخيمات عرسال من فراغ. والدليل ايجاد انتحاريين. واجبات الجيش حماية بلده. خصوصا ان التجارب مع المسلحين مريرة. واللافت ان الذين هاجموا الجيش السوري على مسافة السنوات الماضية، هم انفسهم من يهاجمون الجيش اللبناني اليوم. هذا ما ولّد حالات تضامن لبنانية واسعة مع الجيش اللبناني. لكن من هو المستفيد بالتحريض على الجيش؟.

هناك من اراد توظيف استياء النازحين من الازمات الاجتماعية للتصويب على الجيش اللبناني والايحاء ان هناك استهدافا للسوريين. اصحاب الحملة الاصليون منحازون بالاساس الى جانب المسلحين الارهابيين. هم الذين حرضوا على الدولة السورية، وناصروا المسلحين في مسيرتهم منذ عام 2011. هؤلاء انفسهم يحوّلون الانظار عن التحولات السورية القائمة، ويحاولون منع الدولة اللبنانية من القيام بواجباتها في حفظ الامن. هؤلاء يتوزعون بين حاقد على الدولتين اللبنانية والسورية، ومستفيد من بقاء الازمة، وبالتالي عدم عودة النازحين الى بلادهم. هؤلاء ايضا لا يريدون التنسيق مع الحكومة السورية لاعادة اللاجئين تحت عنوان عدم الاعتراف بالنظام.

من دفع بالسوريين للتظاهر في لبنان استغل الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية، لكنه يريد رمي السوريين في مسار مجهول بدل تشجيعهم على العودة لوطنهم واحترام دولتهم.

لافتة ايجابية واحدة تظهّرت في الايام الماضية تفرض على السوريين الوحدة ضد الارهاب، لكن تحت راية علمهم الوطني وحكومتهم الواحدة. اذا كانت عواصم العالم تعود للاعتراف بنظامهم، فهل يدفع السوريون المعارضون الثمن مرات عدة: مرة عندما انقلبوا على دولتهم وخرجوا من ارضهم، ومرة يوم راهنوا على دول خارجية، ومرة عندما خدعهم لبنانيون وحرضوهم ضد اهلهم تحت عنوان اسقاط النظام، ومرة يوم راهنوا على مساعدات دولية مفتوحة ودائمة، ومرة يوم خلطوا بين معارضة وارهاب، فلم يميّزوا ولم يحسنوا طرق التعامل. سقطت كل تلك الرهانات بسرعة. وحدهم السوريون من دفع الثمن. فلا يجب ان يدفعوا الثمن اليوم في تعاطيهم مع اللبنانيين.

كما يجب على اللبنانيين التعاطي بحذر، انطلاقا من الانحياز المطلق الى جانب ما يقوم به الجيش ضد الارهاب، والتمييز في التعامل مع القضية السورية، وعدم الخلط بين نازح يريد العودة لوطنه و ارهابي خطير. لا مصلحة لا للبنانيين ولا للسوريين بعدم تنظيم امر النزوح والعودة. ان الاطار الصحيح يكون في التنسيق بين الحكومتين والجيشين. لا مفر من هذا الاطار، كما تثبت وقائع جرود عرسال.