أعادت معركة "​حزب الله​" الأخيرة في ​جرود عرسال​ فتح النقاش بشأن ملف قديم يتمثّل بسلاح "حزب الله" وبدوره الأمني خارج إطار مؤسّسات الدولة الشرعيّة، وخارج إمرتها، لكنّ المُفارقة أنّ الحملات المُتجدّدة ضُدّ هذا السلاح فقدت بريقها لأسباب عدّة ومُتراكمة، أبرزها:

أوّلاً: نجح "حزب الله" عبر سياسته الإعلاميّة بتصوير نفسه مُدافعًا عن حدود ​لبنان​ وعن شعبه، بوجه الخروقات الإسرائيلية لسيادته في مرحلة أولى، ثم بوجه الجماعات الإرهابيّة والتكفيريّة في مرحلة ثانية. وبعد أنّ كبّر "الحزب" عبر إعلامه في السنوات القليلة الماضية الخطر الإرهابي الجاسم على الحدود اللبنانيّة الشرقيّة، كبّر إنتصاراته في معركة "الجرود" غير المُتوازنة ولا المُتكافئة، ليلعب بنجاح دور المُنقذ البطل بالنسبة إلى الكثيرين.

ثانيًا: فقد الفريق السياسي الذي كان ينتقد "حزب الله" ويُطالبه بالتخلّي عن دويلته المُسلّحة داخل الدولة اللبنانيّة، وعن إرتباطاته الإقليميّة وعن مُشاركاته العسكريّة في معارك وحروب لا علاقة للبنان بها وتدخل في سياق الصراع ال​إيران​ي مع دول المنطقة، تماسكه ووحدته وزخمه، نتيجة مقتل العديد من أركانه في عمليّات إغتيال إرهابيّة جبانة، وخوف وإنكفاء آخرين، وسعي قسم ثالث إلى إتفاقات وتفاهمات تحفظ مصالحه على حساب المبادئ التي كان يتمسّك بها والشعارات التي كان يرفعها.

ثالثًا: أسفر التفاهم الذي وُقّع بين "التيار الوطني الحُرّ" و"حزب الله" في العام 2006، إلى تأمين غطاء مسيحي كبير للحزب في عزّ الحملات ضُدّه، وجاءت العمليّات الإرهابيّة التي طالت الأقليّات المسيحيّة في الدول العربيّة في السنوات الماضية، لتُقنع المزيد من المسيحيّين بصوابيّة نظريّة التحالف بين "الأقليّات" وبضرورة تطبيقها في لبنان.

رابعًا: أثار خروج "​الحزب التقدمي الإشتراكي​" من قوى "​14 آذار​" السابقة، ولعبه على حبال وسطيّة تبعًا للتطوّرات المحلّية الإقليميّة، الخطوة الأولى نحو تفكّك القوى التي كانت تُطالب بحصر كل السلاح غير الشرعي في لبنان بيد الدولة اللبنانيّة، خاصة وأنّ النائب ​وليد جنبلاط​ إتخذ قرارًا واضحًا منذ سنوات بتحييد "الحزب" عن تهجّماته، حماية لدروز لبنان وسط الصراع السنّي-الشيعي في المنطقة.

خامسًا: شكّل الفشل في إسقاط النظام السوري، بعد أنّ دعمته إيران بالعديد والعتاد بشكل كامل، وبعد أن تدخّلت روسيا في الحرب إلى جانبه بشكل مُباشر وبالغ الفعاليّة، ضربة كبيرة للفريق الذي كان يُطالب بتسليم سلاح "الحزب" إلى الدولة، أو أقلّه بعدم إشتراكه في حروب خارج الأراضي اللبنانيّة. أضف إلى ذلك، أنّ النظام السوري نجح في تحويل ما بدأ ثورة شعبيّة ضُدّ نظام ديكتاتوري إلى معارك عبثيّة وهجمات إرهابيّة وجرائم حرب لا تقيم وزنًا لأي دين أو مذهب أو أقليّة، ولا تقيم أيّ إعتبار لمبادئ الحرب وللحدّ الأدنى من أخلاقيّاتها، وذلك من خلال تركيز ضرباته ضدّ "​الجيش السوري​ الحُرّ" والجماعات الشبيهة به، تاركًا الأرض لإنفلاش التنظيمات الإرهابيّة والمُتعصّبة على كل الصُعد.

سادسًا: أدّى تبنّي "تيّار المُستقبل" سياسة غير واضحة ومُتناقضة ظاهريًا، لجهة إعتماد التشدّد حينًا والليونة حينًا آخر إزاء "الحزب" وسلاحه، تحت حجّة الحفاظ على الإستقرار في لبنان تارة أو إنطلاقًا من الواقعيّة السياسيّة طورًا، إلى فقدان حماس الكثيرين من الإبقاء على موقع الخُصومة الحادة مع "حزب الله"، خوفًا من صفقات سياسيّة يُمكن أن تتمّ من دون علمها، وحتى من خلف ظهرها.

سابعًا: شكّل تبنّي "المُستقبل" ترشيح النائب سليمان فرنجيّة لرئاسة الجُمهورية، النقطة التي أفاضت كوب تراكم خلافات حزب "القوّات اللبنانيّة" مع "التيار الأزرق"، فدخلت "القوات" في تفاهم سياسي مع "التيّار الوطني الحُرّ" تحت عنوان إستعادة الحقوق المسيحيّة التي كانت قد ضعفت كثيرًا نتيجة إنقسامات المسيحيّين الحادة، وهي إعتمدت سياسة مُنفتحة أكثر على أغلبيّة الأفرقاء السياسيّين، وخفّفت من حدّة إنتقاداتها للحزب ولسلاحه.

ثامنًا: القوى والشخصيّات والأحزاب التي لا تزال تنتقد بشكل علني "حزب الله" وسلاحه ودوره الأمني، صارت محدودة جدًا وشبه غير مُؤثّرة في الحياة السياسيّة الداخليّة في لبنان، في ظلّ تسرّب اليأس إلى نُفوس الكثير من المُؤيّدين السابقين لهذا التوجّه، نتيجة عدم تبنّي سياسة واحدة وواضحة وثابتة من سلاح "الحزب"، ونتيجة التأثّر باعتبارات داخليّة وإقليميّة مُختلفة.

في الخلاصة، لا يزال الإنقسام اللبناني بالرأي إزاء "حزب الله" وسلاحه وسياساته، كما كان عليه في العام 2005، حيث هناك من اللبنانيّينمن يعتبر "الحزب"مُقاومة تُدافع عن لبنان وعن سيادته وتحمي حدوده من كل المخاطر وترفع من شأنه ومن وزنه السياسي إقليميًا، وهناك في المُقابل من يعتبره حزبًا ميليشياويًا يُقوّد أساسات الدولة ويُهدّد شركاء له في الوطن ويُنفّذ سياسة إيران التي يتلقّى منها التمويل المالي. لكن وعلى الرغم من بقاء هذه النظرة المُتناقضة إزاء "الحزب" بدون تغيير، فإنّ الحملات السياسيّة والإعلامية على سلاح "حزب الله" فقدت بريقها، نتيجة الأسباب المذكورة أعلاه وغيرها، لا سيّما لجهة شُعور مُعارضي "الحزب" بالعجز الكامل عن تغيير هذا "الأمر الواقع" الذي تتجه أغلبيّة الجهات السياسيّة اللبنانيّة إلى التعايش معه، إمّا إقتناعًا أو تأييدًا من جهة، وإمّا خوفًا أو يأسًا من جهة أخرى.