عندما انتصرت الثورة الاسلامية في ​ايران​ على نظام الشاه محمد رضا بهلوي وأسست الجمهورية الاسلامية بقيادة الامام الخميني، لم تلغِ كل ما كان قبلها، ولم تتصرف بعقل ميليشوي غالباً ما يكون عقلاً تخريبياً خبرته المنطقة في كثير من الاضطرابات والثورات والحروب التي شهدتها ولا تزال، بل تصرفت بفكر دولتي، أو «فكر الدولة» الذي تتميز به الشعوب ذات الحضارات الضاربة في جذور التاريخ منذ آلاف السنين والتي تحفظ دولها بكل مؤسساتها وإمكاناتها وحتى لو تغيّر حكامها، لأنّ هذه المؤسسات هي مُلك الشعب وليست ملك الحاكم، سواء مات هذا الحاكم أو تغيّر.

أسقطت ​الثورة الايرانية​ النظام الشاهنشاي الامبراطوري الذي كانت تقيمه العائلة البهلوية منذ إطاحتها حكم الملوك القاجاريين سنة 1925 عندما تزايد نفوذ رئيس الوزراء رضا خان بهلوي وخلع الشاه احمد قاجار وتولى العرش مكانه، وظل حاكماً لإيران حتى العام 1941 حيث حكم بعده ابنه الاكبرمحمد الذي دام حكمه من 1941 إلى 1979 وكان يلقب بـ (شاهنشاه) أي ملك الملوك

اعطَت الثورة بعد انتصارها للشاه ما للشاه سواء كان سلبياً او ايجابياً، وأعطت للشعب ما للشعب. فالإطاحة بالشاه كانت اسبابها سياسية بالدرجة الاولى وكانت الاسباب الاقتصادية والاجتماعية بالدرجة الثانية.

ايران الثورة اطاحت حكم بهلوي الذي كانت تسميه «حكم الطاغوت» كنظام سياسي وجدته يقمع شعبه وينكّل به من خلال العسكر و​الاجهزة الامنية​ وابرزُها جهاز «السافاك»، ويزجّ بمعارضيه السياسيين في السجون، وينتهج سياسة خارجية كانت الثورة ترى انّها تجعل من ايران شرطياً للولايات المتحدة الاميركية والغرب عموماً ولا تعادي ​اسرائيل​ المغتصبة ل​فلسطين​ والمقدّسات الاسلامية والمسيحية.

أمّا السياسة التي تنتهجها ايران الجمهورية الاسلامية منذ انتصار الثورة فتتمثل بدعم اقضية فلسطين وكلّ قضايا مَن تسميهم المستضعفين في العالمين العربي والاسلامي.

وهذه السياسة هي موضع تأييد هنا، ومعارضة هناك، دول عربية وإسلامية وحتى غربية تؤيدها وأخرى تعارض، من قبل ما هو عليه الوضع السائد الآن عربياً وإسلاميا ودوليا، في ظلّ الحروب التي تشهدها المنطقة والتي تشارك فيها ايران مباشرةً هنا ومداورة هناك في مواجهة دول ومحاور اقليمية ودولية.

أمّا على مستوى سياساتها الداخلية، وخصوصا على المستوى الانمائي والعمراني والاقتصادي والاجتماعي فإنه يسجّل لايران انّها تمكّنت تحت الحروب والحصار والعقوبات التي تعرّضت لها لاكثر من 35 عاماً، ولا تزال حتى الآن ولو بأقلّ حدّة، من ان تصبح قوّة اقتصادية اقليمية كبرى قد ترقى الى مستوى ​كوريا الجنوبية​ وغيرها خلال سنوات عدة، إذ إنّها رغم الحصار بلغت درجة عالية من الاكتفاء الذاتي باعتمادها على إمكاناتها وخبراتها الذاتية في مختلف المجالات.

حين تزور مجموعة من قصور الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي في شمال ​طهران​، يبرز امامك دليل واضح على انّ الثورة الايرانية كافحت كلّ ما اعتبرته سيئات النظام البهلوي الامبراطوري، ولكنّها في المقابل تعترف بما كان له من حسنات وتحافظ عليها، إذ حافظت على قصوره كلّها في طهران وكل أنحاء ايران، وعلى كلّ ما وجد فيها من مقتنيات للعائلة البهلوية الشخصية والعامة، الى درجة انّ اياً من المسؤولين الايرانيين بدءاً من المرشد الاعلى للجمهورية الاسلامية السيد علي خامنئي لم يتّخذ أيّاً من هذه القصور مسكناً له أو حتى مقرّاً لوزارة أو لأيّ مؤسسة عامة، وتمّ تحويل هذه القصور متاحف يرتادها السياح من كل انحاء العالم وتدرّ على الخزينة الايرانية مبالغ كبيرة من المال.

واللافت انّ كلّ هذه القصور محفوظة بكل محتوياتها، ويستوقف زوّارها انّ كلّ ما للشاه وعائلته ما زال محافظاً عليه ومعروضاً امام الزوّار، وكأنّ هذه القصور ما تزال مسكونة من اصحابها.

ويطالعك عند مدخل مجموعة من هذه القصور في شمال طهران بناء من مجموعة غرف، تبدأ الزيارة به، وفيه معرض صوَر ومقتنيات ومخطوطات للعائلة البهلوية منذ ايام الشاه رضا الى ايام نجله محمد الذي اطاحته الثورة عام 1979.

ويشرح لك مَن في هذا المبنى من موظفين مراحلَ حياة العائلة البهلوية من خلال صورِهم الفردية والجماعية، وكذلك من خلال المخطوطات المعروضة، وبين المعروضات صوَر لمشاريع انمائية وإعمارية اعِدّت ايّام الشاه رضا واستمرّت ايام نجله محمد لترثَها الثورة فتستكمل تنفيذ بعضها وتواصل تنفيذ البعض الآخر حتى الآن.

وأبرز هذه المشاريع كان البرنامج النووي الذي يمكّن ايران من امتلاك ​الطاقة النووية​ لأغراض سلمية، على انه لم يكن واضحاً ما اذا كان الشاه ينوي تنفيذ هذا البرنامج لأغراض عسكرية ام لا، إنّما بدايات تنفيذ هذا البرنامج بدأت في عهده وتوقّف التنفيذ لبِضع سنوات قبل ان تستأنفه الجمهورية الاسلامية بعدما اعدّت له كلّ المستلزمات ووفّرت له العلماء الذرّيين من ايرانيين واجانب الى ان وصَلت الى الاتفاق الشهير مع مجموعة الدول الست الذي ادخلها رسمياً الى نادي الدول النووية.

ومن هذه المشاريع ايضاً مشروع مترو أنفاق طهران والقطار السريع الذي يربط بين طهران ومختلف المحافظات الايرانية، والمدن الكبرى مثل قُم ومشهد وتبريز وشيراز وأصفهان وغيرها، وهذا المشروع اعدّه الفرنسيون ايام الشاه، ولكن بعد الثورة تولّاه الصينيون فنفّذوا جزءاً منه، قبل ان يصار الى متابعة تنفيذه بالخبرات الايرانية الصرفة.

فمترو أنفاق طهران أنجِز ولم يبقَ منه الّا خطّان أحدهما يَصلها بمطار الامام الخميني الدولي الذي يَبعد عنها لأكثر من سبعين كيلومتراً، على ان تنجَز خلال اشهر خطوط تربط طهران بمدن مشهد وشيراز وتبريز وأصفهان وقم وغيرها من المدن البعيدة عن العاصمة الايرانية.

والامر نفسه ينطبق على صناعة السيارات، فأيام الشاه كانت تُصنع سيارة اسمُها «بايكان»، والآن هناك مجموعة من مصانع السيارات الجديدة، ويتمّ استخدامها محلياً وتصدّر ايضاً الى عدد من دول المنطقة وأفريقيا، وقد تمكّنت ايران من بناء مصانع موازية في بعض الدول المجاورة، وهي تسعى الى تنفيذ مزيد من هذه المشاريع.

وعندما سُئل احد المسؤولين عن مترو انفاق طهران كيف استطاعت ايران تنفيذ هذه المشاريع بكلّ تقنياتها وأمَّنت لها كلّ المستلزمات في ظلّ الحصار والعقوبات الدولية التي كانت مفروضة عليها، ردّ قائلا: «من يصنع صواريخ عابرة للقارّات تحمل أقماراً اصطناعية الى الفضاء لا يصعب عليه تنفيذ مشاريع مثل هذا النوع».