لكلّ سلطة لباسها، وحدودها، وفلسفتها، ودورها في تنسيق المشهد الوطني، حتّى تظهر الدولة منسجمة في قوّة نظامها السياسي، أو متنافرة بمشهد المتشظي، أو المرقّع. أسوق هذه المسألة ملاحظاً أنّ معظم السلطات تبدو محكومة، إن لم نقل ملجومة، بضوابط عريقة في تواريخ الشعوب، والثقافات، والأوطان، باستثناء سلطتين تشغلان الأزمنة والأمكنة والانتباهات كلّها، وأعني بها السلطات السياسيةوالإعلامية، ويمكنني وضع الإعلامية قبل السياسية حيث الفلتان . لسنا بحاجة إلى إعطاء أمثلة أبداً. يكفينا مرافقة الفضائيات الكثيرة التي أعرض عن رؤيتها أهلها بعدما بهرت الأعين عندما سبقتنا جميعاً لتقعد فوق كرسي من القش في عالم الفضاء، أعني النور والنار هي لم تكن تدري أنّها تمطّ عنقها بما يتجاوز الكهرباء الاجتماعية إلى لعبة خطيرة تحرق الذات، والمجتمعات. وعلى سيرة الأزياء، يمكنني أن أسوق أمثلة متعدّدة ظاهرة، وفروقاً معاصرة، أو شكليّة بين أهل السلطات التشريعية والتنفيذية من ناحية، والسلطات الأخرى التابعة لها، أو المنبثقة عنها. أوّلاً، ليس هناك من أزياء خاصة بالوزراء تميّزهم عن غيرهم إلاّ عند التقاط الصورة التذكارية للحكومات، أمام ​قصر بعبدا​ مثلاً. ولا أزياء خاصة بالبرلمانيين الذين يمثّلون الشعب، يرتدي النائب الزي الذي يريد، ويقول الكلام الذي يريد، متمسّكاً بالحصانة التي تمنحه إيّاها الجمهوريات. المشكلة أنّ قلّة هم الذين يعرفون حدودهم في السياسة والإعلام العربيين حيث الفلتان. لو نزلنا سلّم السلطات درجة واحدة لاختلفت المظاهر والمقاييس والأعراف، ولوجدنا أنفسنا في مجتمعات صغيرة متنوّعة. رجال الدين لهم أزياؤهم الخاصة التي هي من مستلزمات سلطاتهم، يطلون علينا بها من المنابر، واعظين في الهياكل والجوامع والكنائس والشاشات. وينطبق الأمر بالطبع على أصحاب السلطات القضائية والقانونية يرتدون الثياب السوداء المزركشة بالأحمر خلف أقواس العدل، وأمامهم المحامون بياقاتهم البيضاء، دليلاً على أبّهة السلطة المحقّقة للعدالة. ويتساوى الأمر بين ​القضاة​ وأساتذة الجامعات عند مناقشة الأطاريح، ومنح شهادات الدكتوراه، مع أنّك تجد قضاة يتابعون دراساتهم العليا بإشراف أساتذة الجامعات. ويمكننا، لو أمسكنا بيد أفلاطون وجمهوريته الفاضلة، أن نضع السلطات الجامعية في أعلى السلم، لأنك أنّى ذهبت يستقبلك أفلاطون، أوأرسطو، أمام باب الجامعة، وإلى جانبه الإسكندر المقدوني منذ 2500 سنة، قولاً وفعلاً. وهنا أسوق ملاحظة لافتة أرسلها إليّ جبران

تويني بعد ترشّحي إلى الانتخابات البرلمانية، وهي كناية عن ورقة كتب فوقها: الجامعة أقوى من البرلمان. اليوم بهتت مظاهر السلطات التربوية، لأنّ أزياء تخرّج الأطفال في الحضانات المدرسيّة قد يتجاوز أزياء الجامعات أبّهة، حيث الفلتان. قد يسأل أحدنا في سرّه: لماذا ينحني هؤلاء، وأولئك، إذ يصافحون رجال السلطات الدينية إجلالاً، أو يتعقبون أهل السلطة القضائية والجامعية من أجل إطلاق موقوف، أو إنجاح طالب دكتوراه، أو تسجيله تجاوزاً لكلّ القوانين، ويعرضون عن التحلّق في النظرة إلى ​الجيش​ وفيه الضابط والانضباط، بمعنى النظام والترتيب والتراتبية؟ لماذا يتناول بعض سياسيينا بالتناوب الزي الأخضر بينما ينادي مجمل المواطنين مرتدينه ب:«يا وطن»، وهي، كما يبدو بوضوح، مناداة صادقة وعفوية من أفراد الشعب ال​لبنان​ي لا يجوز التغاضي عن مدلولاتها الغنية، وعدم التعمير الوطني في مدماكها، فالحس الشعبي غالباً ما يتجاوز الحس السياسي والإعلامي. أهو التنافس التاريخي بين الصمت الكثير والكلام السياسي والإعلامي الكثير؟ ربّما الأمر كذلك بما يفسّر أرق الحكام في الديمقراطيات، وتشوّه حريّاتها حيث الفلتان. أليس الإسكندر المقدوني «ذو القرنين» ضابط عصر أرسطو بيدقاً يختصر الفكر اليوناني، وحمله ذاك الفيلسوف يبشّر به في بلاد فارس والعالم؟ أيجوز لنا أن نشطب بداية عصر النهضة العربية في العام 1789 مع دخول الضابط نابليون بونابرت إلى مصر، وقد تناول الحرف المطبوع من حاضرة ​الفاتيكان​ وزرعه مطبعةً أولى في بولاق مصر؟ ولا ننسى أنّ نابليون جاء قاعداً فوق «عصر الأنوار» المكتنز بالفلسفات والأفكار التي أسست للحضارة المعاصرة في الحرية، والإخاء، والمساواة، والعدالة، وقد رسّخها، ضابط في التاريخ ولو انحرفت الأمم عن مبادئها الموضوعة للعدالة في الأرض. أننسى ​شارل ديغول​ الضابط الفرنسي الذي أرسى ​فرنسا​ الحرّة، وعمم فكرها في العالم؟ لقد عرف لبنان منذ نشوئه أربع تجارب، وشّحت ملامح الحكم فيه بالقسمات والملامح العسكرية، ونعني بها تلك الحقبات التي كان يستوي فيها فوق كرسي الجمهورية قادة يخرجون من ​المؤسسة العسكرية​ بعدما كانوا يخلعون بزّاتهم العسكرية في القيادة، ومع ذلك ما زال هناك تطاول استفزازي، وطرح أسئلة غير لائقة حول الدور والتخويف منه الأمر الذي يورث الكثير من الإشكاليات الوطنية. إننا في عصر مختلف حافل ب​الإرهاب​ يفترض تنخيل الكلام قبل التفوّه به في لبنان، ودنيا العرب.