ي خطابه الأخير أطلق السيد حسن نصرالله قاعدتين تتصلان بمعركة تحرير ما تبقى من ​جرود رأس بعلبك​ و​القاع​، مؤكداً على أنّ الجيش هو مَن يضبط الإيقاع من دون أن يقيّد بشروط أو توقيت. وكان قوله هذا هاماً جداً لمصلحة الجيش ولصالح المهمة. فقد نصح السيد المعنيّين جميعاً بأن لا يقيّدوا الجيش ولا يحدّدوه بمهلة زمنية في معركة التطهير تلك، وأن لا يقارنوا المعركة بغيرها من المعارك، لأنّ لكلّ ميدان طبيعته وقواعده التي قد لا تصحّ على ميدان آخر، ولأنّ في المقارنة ما يرهق المعنيّين بالشأن أولاً، وأنّ فيها ما يحتمل الخطأ الكبير ثانياً، والأفضل في هذا الأمر تجنّب المقارنة وتجنّب تحديد المهل. لأنّ فيهما فضلاً عن ذلك يكمن او يحتمل الإساءة للجيش من باب الضغط عليه او الإيقاع بينه وبين المقاومة من باب المقارنة، وفي كلا الأمرين من السلبيات ما لا يقبله ولا يحتمله الجيش ولا المقاومة ولا الشعب الحريص على نجاح المهمة.

لقد تلقّى الجيش ال​لبنان​ي الأمر بالمهمة بتحرير الجرود من السلطة السياسية التي أطلقت يده في التنفيذ. وهنا ينبغي أن نذكّر بقواعد ​القانون اللبناني​ التي يعمل الجيش بمقتضاها والتي فيها أنّ للقيادة العسكرية وحدها الحق باختيار كلّ ما يتصل بمسألة تنفيذ المهام العسكرية، وأنّ السلطة السياسية غير مخوّلة أبداً بالتدخل بجزئيات التنفيذ ومتعلقاته. فالأمر منوط بالعسكريين الذين يعتمدون الأسلوب ويحدّدون مستلزمات التنفيذ ويهيّئون ظروفها بما يضمن نجاح مهمّتهم في الوقت الأقصر والتكلفة الأدنى. وانطلاقاً من ذلك ورغم انشغال اللبنانيين وسواهم بمعركة استكمال تطهير الجرود من داعش، فإنّ الجيش كما يبدو لن يطلق معركته الرئيسية قبل أن يستكمل تهيئة ظروفها من كلّ الأوجه الميدانية والعسكرية والأمنية واللوجستية، حيث إنّ الجيش يرى أنّ هناك شروطاً أربعة لا بدّ من توفرها قبل تحديد الساعة الصفر، وهي:

1 ـ تهيئة ​البيئة​ الأمنية العامة في البلاد. وهنا نلفت الى انّ ​الجيش اللبناني​ ينتشر اليوم على مساحة لبنان من الجنوب في مواجهة «إسرائيل» إلى الشمال والشرق لضبط الحدود في مواجهة ​الإرهاب​، فضلاً عن مهامه الحساسة في محيط المخيّمات الفلسطينية ومناطق أخرى ذات خصوصية. هذا من جهة ومن جهة أخرى، فإنّ لداعش وأخواتها من الخلايا النائمة والتي يستمرّ الجيش والأجهزة الأمنية في العمل على تعقبها وتفكيكها، فلها من الخلايا ما يمكن أن تحرّكه بوجه الجيش في الداخل لإرباكه عند بدء المعركة. لهذا نرى أنّ إطلاق المعركة يستوجب رفع مستوى الأمن في الداخل لتأمين ظهر الجيش وهي مهمة يتولاها الجيش بنفسه مع الأجهزة الأمنية التي تؤازره فيها، وفقاً لطبيعة مهامها وقدراتها. ولهذا كان اجتماع ​المجلس الأعلى للدفاع​ بحضور ​قادة الأجهزة الأمنية​ حيث تمّ تأكيد هذه المهمة بالذات، أيّ حماية ظهر الجيش.

2 ـ تهيئة البيئة العملانية الخاصة بالمعركة. ويشمل هذا الأمر مسائل رئيسية منها تحشيد القوات العسكرية الملائمة للمهمة، وبشكل خاص اختيار وحدات المشاة والوحدات الخاصة الكفؤة للعمل في أرض جبلية وعرة تفرض قيوداً هامة على استعمال الآليات المدرّعة وسواها، ومنها تسوية خطوط التماس مع الإرهابيين ومعالجة أمر النتوءات والنقاط الرئيسية الحاكمة في بقعة العمليات وقواعد الانطلاق، ومنها عمليات التمركز بعد الاستطلاع والتعرّف على الأرض من قبل القوى المولجة بالتنفيذ فضلاً عن خطط النيران والانتقال وما إليها.

3 ـ تهيئة المتطلبات اللوجستية. ليست معركة الجرود بالنسبة للجيش مجرد إغارة على جيب مسلح، بل إنها معركة تطهير مساحة تزيد عن 140 كلم2 وفيها أكثر من 700 مسلح محصّنين في كهوف ومغاور وأنفاق، ولديهم منظومة تسليحية لا بأس بها. وبالتالي إنّ معركة بهذا الشكل توجب تحضير الذخيرة المناسبة بنوعها وكمّيتها مع احتمال طول المواجهات وتعقيداتها وينبغي التحسّب لكلّ ذلك.

4 ـ التنسيق مع القوى الصديقة العاملة في الميدان. وهنا ينبغي أن نؤكد بأنّ التنسيق مع الجيش العربي السوري والمقاومة أمر ضروري وملحّ من أجل ضمان نجاح المهمة بأقصر وقت وأقلّ كلفة، سواء اعتمد الأطراف الثلاثة مناورة المطرقة والسندان أو مناورة الكماشة. وكلّ قول آخر رافض للتنسيق هو قول مَن يريد بالجيش شراً ويعمل على إفشاله في مهمته أو على اقتياده إلى حرب استنزاف طويلة قد تهدّد الأمن في الداخل اللبناني أو إلى حرب ذات تكلفة باهظة، كما حصل في ​مخيم نهر البارد​، حيث دامت المعركة في مواجهة 250 مسلحاً مدة 103 أيام دفع الجيش خلالها 172 شهيداً.

هذه هي الشروط التي لا بدّ من تحققها حتى يطلق الجيش معركته، وأنّ المقاومة والجيش العربي السوري وهما الطرف الآخر في المعركة جاهزان لخوضها في الوقت الذي يرى فيه الجيش إمكانية إطلاقها. والأمر متروك لتقديره من دون أيّ ضغط مهما كان نوعه أو حجمه. وهنا ينبغي أن يرتاح السياسيون في لبنان ويخففوا من إطلاق نظرياتهم وقيودهم، فإنّ الشأن العسكري الميداني يعني أصحاب الاختصاص ولتترك ​قيادة الجيش​ الموثوقة بوطنيتها واحترافها تعمل كما ترى مصلحة لإنجاح المهمة خاصة أنّ لديها في المعركة أكثر من هدف تعمل على تحقيقه، منها مسألة تحرير ​العسكريين المخطوفين​ لدى داعش الذين انقطعت أخبارهم منذ 30 شهراً.

ولأنّ قيادة الجيش تدرك ما عليها أن تقوم به، فإنها كما يلاحظ الجميع تعمل على أكثر من خط في سبيل تهيئة ما ذكر. وهنا نؤكد على أهمية ما يجري من أعمال تمهيدية وتحضيرية في الميدان إنْ لجهة القصف المدفعي أو لجهة القضم المتدرّج.

ففي الأولى يحقّق الجيش بمدفعيته رغم محدودية التأثير العملاني الميداني له بسبب طبيعة الأرض والأهداف فيها يحقق مصلحتين مهمتين له، الأولى ميدانية حيث تحرم العدو من الاستقرار وترميم تحصيناته والاستفادة من بقع التجمّع للتحشيد والاستراحة، وتجعله في حالة إرهاق مستدام تخفض مستوى قدراته القتالية، أما معنوياً فإنها تشكل عامل ضغط مؤكد للقرار اللبناني بتطهير المنطقة، مهما كانت الظروف، الأمر الذي قد يدفع الإرهابيين لطلب التفاوض خاصة أنهم شاهدوا ما حلّ ب​جبهة النصرة​ وسرايا اهل الشام قبلهم وقد أخرجوا من المنطقة صاغرين. نقول هذا رغم تدني احتمال دخول داعش في مفاوضات تخرجه من المنطقة .

أما في الثانية أيّ القضم والوثبات المتلاحقة، فإنّ الجيش يضيّق بذلك الخناق على داعش ويحكم الحصار من جهة لبنان ليتكامل ذلك مع الحصار المفروض على الإرهابيين من الاتجاه السوري. كما أنّ هذه العمليات من شأنها أن تحقق أمناً إضافياً للقوى التي ستهاجم، فهو يؤمّن أمن المجنّبات وهذا من شأنه أن يقتصد بالقوى أيضاً.

أيّ في خلاصة الأمر، إنّ معركة جرود رأس بعلبك والقاع، هي معركة حسم قرارها، وأعمالها التنفيذية قائمة على قدم وساق وإنّ المعنيين بها يعرفون مهامهم ويتقنون القيام بها ويتصرّفون في الميدان بما يضمن النتائج ويؤكد الانتصار، ويبقى فقط أن يريحهم المتطفلون من نظرياتهم وعنترياتهم و… ويدعوهم يعملون.