أشعر بالمعاصرة إذ أرى نصوص الصحافة تنقاد نحو الضمور أو الإختصار. قد يشعر البعض بالقهر لصعوبة التعبير في سطورِ معدودات لكنّ في المسألة إختصار المسافات الشاسعة بين الأجيال، وتقارب القيم والفلسفات بين الآباء والأبناء. هي نادرة عربيّاً ؟ نعم على الأرجح، لكنّك تعاينها في مسيرة دبي التي لا تحلم بفكرةٍ أو تتلفّظ بجملة إلاّ والشباب في النسغ يشغلون الوزارات والبرامج والطموحات. نادرة؟ نعم وتحتها خطّين.

يمكنني أن أتذكّر هنا اللوح الأسود الحجري أو ال Ardoise لمن كان وما زال يجهل إسمه بالعربيّة. من نسله ولد الآي باد معرّباً وعالمياً من دون الحاجة الى كتابته بالإنكليزية أو ترجمته أو سؤآل مجامع اللغة العربية عن معناه ونحن نجهل أماكن إقاماتها وإجتهاداتها اللغوية تلتحف غبار المتاحف. صار الآي باد لوحة الدنيا وصندوقها المضيء بثقافات العالم ونصوصه ومنشوراته ولغاته ولهجاته وصورها الثابتة والمتحركة وأفلامها. كلّ ما عليها وما فيها محشور في هذا اللوح الغريب العجيب الذي يستعمله الأحفاد والأجداد. إنّه حفيدة زواج الأذن والعين تلك البويضة التي يمكنك أن تحشر الدنيا فيها من دون أن تخدش قشرتها. هذا الزواج الهائل خلق أجيالاً لا تنتهي ولا تعمّر من الإبتكارات.

قد لا يتذكّر هذا اللوح الأسود الحجري إلاّ من ينتمي الى جيل عتيق إعتاد صغيراً أن يعلّق بلوحه طبشورةً أثمن قيمةً من الذهب الى جانب الفقر والقيظ وأحلام المستقبل ويدسّها في كيس صغيرٍ من القماش الخام يعلّقه في عنقه ويذهب راكضاً حافياً الى مدرسةٍ مفترشاً الحصير للدراسة تحت السنديانة الهرمة. كان اللوح محصوراً في إطارٍ من الخشب مساحة لأنظمة التعليم في المدارس وتكايا التعليم في لبنان كما في معظم البلاد العربيّة من جداول الضرب الى علم الفلك وفلسفة الإغريق وعلوم الدين...ألخ.

يقيم بين اللوحين تاريخ واسع من الحضارات اللامتناهية التربوية والثقافية والسياسية والإعلامية وضف إليها ما شئت من ألفاظ وصفات مشابهة تنتهي بالياء والتاء المربوطة كما إعتدنا في نصوصنا العربيّة. إنّه تاريخ أشبه بسلّم يصل الأرض بالفضاء وإليه نرتقي ونتخالط أجيالاً صامتة من مختلف الأعمار بكبس أزرارٍ لا تحتاج الكثير من المعرفة والعناء بل القليل من الخبرة والمهارة. كلّما ارتفعنا درجة ضمرت الأشياء وتمّ إختزالها الى مستوى التغريدات في تطبيق التويتر مثلاً التي تجتاح البشر ونشرات الأخبار وترسّخ كسلهم في الكتابة. نعم. معظم نشرات الأخبار ووسائل الإعلام وما تبقّى من الصحافة المكتوبة يصارع لاهثاً خلف عصر الحذف والإختزال مع تفشّي ثقافة الصدفة والعشوائية والفوضى التي تفرضها عادات الإدمان على الآي باد.

كنّا في ما سبق نعاني من مطوّلات الصحافة المكتوبة قبل أن تخضع الصحافة النصوص والمقالات لعددٍ محدّدٍ من الكلمات. إنقلب العصر وغاب قرّاء المطوّلات والشروحات التي لا تنتهي. مات ذلك العصر الذي قال فيه صحفي بإعتزاز لرئيس تحرير جريدته :

ما هذا الحجم الضخم والرائع؟ تستلزم جريدتك خمسة كراسي لفلشها وقراءتها. وحتّى عندما ظهرت الجريدة الرسمية في فرنسا مثلاً أثارت موجات من الإعجاب والسخرية أوالنقد، فاعتبرت إحدى التعليقات بأن جمع ثلاثة أعداد منها كافية لصناعة" بارافان" أي حاجز كامل بين غرفتين!

ومع صعود موجة الصراع بين أحجام الصحف التي تنافست على لمعة الإبتكار في العناوين والمانشيتات في القرن التاسع عشر الذي سمّي يومها ب "عصر العنوان"، ظهرت مجلة فرنسيّة Illustration في العام 1845، وكان همّها الأساسي تحدّي منافسيها بحجمها متذرعةً بأن المساحة المألوفة للصحف الأخرى لا يمكنها أن تبرز العناوين والإعلان بما فيه الكفاية. وعلّق على الموضوع رسّام الكاريكاتور فيها بقوله:

" إنّ طموح العصر الصحفي بالنسبة إلينا الوصول الى طباعة جريدة بحجم الشانزيليزيه أو ال Champs de mars قرب برج إيفل. لماذا؟ لأنّ حجم الصحيفة بالإختصار كان يعكس في الأذهان مستوى عبقرية الأمة والصدر الرحب وطموحات الدولة وعظمتها.

تخرج الصحافة العربية مثل غيرها من المكاتب الواسعة المتماهية بمساحات السلطات، وينحشر فيها الكتّاب في أقفاص زجاجيّة وعيونهم وأصابعم معلّقة بالشاشات الزجاجية، وأحياناً تراهم في مساحات مفتوحة مثل بريطانيا وأميركا حيث سقطت الحواجز في المكاتب والمنازل لمصلحة الميادين المكشوفة لامتداد البصر في أثناء العمل. وكأنّك تصافح الصحفيين الشاغلين لقاعة التحرير بيد واحدة، وتسمعهم بأذن واحدة وتراهم جميعاً بعين واحدة. وكلّما دخلت المكان الضيّق ينتابك كرب واختناق لضيق لا يطفئه سوى كوب من الماء في المكتب الذي يشغله وحيداً رئيس التحرير. ما أن يفتح الزائر باب المصعد الذي لا مرآة فيه، حتّى يجد نفسه مرتبكاً داخل المؤسسة وبوجهه عاملة الهاتف إذ لا مجال له للتنحنح أو لحك الشعر أو تمشيطه ولا لتسوية الهندام ولا وقت للمقدمات والتأتأة والوشوشة. المهم المباشرة بالموضوع من دون مقدمات ومداخل كلامية طويلة تشبه مداخل البيوت في جبال لبنان المسقوفة بالعرائش والمساحات الخضراء. هنا ما عاد هناك من مساحات غير مألوفة للمقدمات لا في الأخبار ولا في المقابلات أو التحقيقات ولا مجال حتماً للقيلولة وشرب القهوة والتدخين ومضيعة الوقت لأن الوقت هو للإنتاج الذي يعني المال: The time is money.

تنحدر الصحافة المكتوبة نحو شاشاتٍ من ورق لتضيف تراكماً جديداً لتجارب النصوص القصيرة المفروضة على كتّابها وتذكّرنا بالحجم الإنكليزي النصفي الصغير أو tabloid الذي تذهب إليه الصحافة إذ لكلّ عصر جنونه ومعاييره المرتبطة باقتصاد المؤسسة وتقنيات الطباعة والتوزيع لكنها خاضعة أيضاً لطريقة التصفح عند ركوب القطارات أوإتقاء العواصف والأمطار والحفظ .

يتحوّل القرّاء الى كتّاب ومصوّرين أو يمتهنون إعادة كتابة النصوص في أثناء قراءتها وتتضاعف اللذة في حركة السبابات ونضيع في البحث عن هوية للزمن العربي في عصر الميكروكومبيوتر والطائرات التي تسبق الصوت والقطارات السريعة ومجلاّت الجيب وصحف الجيب والميني مقال؟

تلك قصة تطول والمساحة هنا في صحيفة الخليج تقول"بالميني مقال".

أحترم العصر وأفسح المجال للشباب وأسمع جيل اللوح الأسود يشهق من طلاقٍ يتنامى شوقاً الى حفيف الغابات المطحونة ورقاً جاهزاً للتحبير بعدما هاجرت العصافير والطيور منها الى عصر الكتابة الضوئية فوق ألواح الزجاج تأخذنا كما الأطفال بأيدينا من الساعات الزجاجية في معاصم البشرية الى الكومبيوترات المصفوفة فوق المكاتب وفي الأحضان مروراً بالشاشات التي لا نهاية لأشكالها ووظائفها.

وكأنّ الثقافات عالم مسطح من زجاج!