قاسية ومؤلمة أتت "الحقيقة" في قضيّة ​العسكريين المخطوفين​ لدى تنظيم "داعش" الإرهابي، والتي أماطت اللثام عن واقعة استشهادهم قبل عامين، بحسب الترجيحات الأولية، ما "نغّص" على اللبنانيين الاحتفال بـ"الانتصار" الذي تحقّق في معركة ​جرود القاع​ و​رأس بعلبك​، ضدّ تنظيمٍ قد يكون الأشدّ إرهابًا وتطرّفاً في المنطقة في المرحلة الحاليّة.

وإذا كانت دماء الشهداء يفترض أن "توحّد" مواطني أيّ دولةٍ في العالم، فإنّ المفارقة المؤسفة أنّها لم توحّد اللبنانيين، الذين راحوا يتبادلون الاتهامات يمينًا وشمالاً عن المسؤوليّات، بل إنّ الأمر وصل بالبعض لحدّ إفراغ انتصار الجيش ضدّ "داعش" من مضمونه، والتلميح لـ"هزيمةٍ" في مكانٍ ما سمح بها "تهريب" قتلة جنود الجيش من الإرهابيّين، توازيًا مع عودة الجدال العقيم عن التنسيق والمعادلات وما إلى ذلك...

غبار على الانتصار؟

بدايةً، لا شكّ أنّ ما حقّقه ​الجيش اللبناني​ في معركة جرود القاع ورأس بعلبك هو إنجازٌ أكيد يُحسَب له، وقد فرضه الواقع الميدانيّ على الأرض، بعد طرد الإرهابيين من المناطق والأراضي اللبنانية التي احتلّوها دون وجه حقّ، ولو تأخّر الأمر لنحو ثلاث سنواتٍ، وهو تأخّرٌ متّصل بعوامل وأسباب لا علاقة للجيش بها بشكل مباشر، بقدر ما هي مرتبطة بالقرار السياسيّ الذي بقي معلّقاً لفترةٍ طويلة.

وبمُعزَلٍ عن النقاشات الدائرة حول وجود تنسيقٍ غير مُعلن أو غير مباشر بالحدّ الأدنى بين الجيش اللبناني و​الجيش السوري​ و"​حزب الله​"، نظرًا للتزامن والترابط والتكامل بين عمليتي "​فجر الجرود​" و"إن عدتم عدنا" التي خاضتها الأطراف الثلاثة على ​الحدود اللبنانية السورية​ خلال مرحلة زمنية واحدة، فإنّ الأكيد أنّه، وبنتيجة هذه المعركة، باتت الحدود اللبنانية السورية نظيفة وآمنة إلى حدّ كبير، بعدما تمّ دحر الإرهابيين من الأراضي التي استولوا عليها وحوّلوها إلى ملاذ آمن لأنفسهم، بل قاعدة لعمليّاتهم.

ولعلّ ما يؤكّد هذه النظرية أنّ المعركة انتهت بـ"استسلام" إرهابيّي تنظيم "داعش" ومقاتليه أمام ضربات الجيش اللبناني النوعية، توازيًا مع ضربات الجيش السوري و"حزب الله"، علمًا أنّ وقف ​إطلاق النار​ الذي دخل حيّز التنفيذ عند الساعة السابعة من صباح يوم الأحد كان الموعد المقرّر من ​قيادة الجيش​ لاستئناف المرحلة الأخيرة من العملية العسكرية ضدّ التنظيم، قبل أن ينصاع الإرهابيّون ويوافقوا على الشروط التي فرضت عليهم لإنهاء المعركة، بما يمنحهم "ممراً آمناً" إلى مناطق سيطرتهم الأصليّة في الداخل السوري، مقابل تقديم المعلومات اللازمة عن العسكريين المختطفين، وذلك بموجب "تسوية" تشابه في مضمونها مجمل "الصفقات" التي تفضي إليها معظم المعارك التي تشهدها الحلبة السورية.

لكن، إذا كان ذلك صحيحًا، فإنّ الصحيح أيضًا أنّ النهاية "الحزينة" التي شهدها ملف العسكريين المختطفين قلبت الأمور رأسًا على عقب في عيون الكثيرين، خصوصًا أنّ الحرب أينما كانت هي نفسيّة بالدرجة الأولى، وبالتالي فإنّ ما حصل على خط هذا الملف كان كفيلاً بضرب كلّ المعنويّات، بل الإيحاء وكأنّ هناك من "كافأ" الإرهابيين على فعلتهم عبر تهريبهم بكلّ بساطة. لكنّ الحقيقة أنّ هذه النهاية فرضتها "ضرورة" إنهاء جرح العسكريين وأهاليهم النازف، وكشف مصيرهم بالملموس، علمًا أنّ معلومات كانت قد وصلت إلى ​الدولة اللبنانية​ من خلال المدير العام للأمن العام ​اللواء عباس ابراهيم​ منذ فترةٍ طويلةٍ بأنّ العسكريين استشهدوا، إلا أنّ كلّ الأحداثيات التي وصلتها لم تمكّنها من بلوغ أيّ يقين عبر الوصول إلى الجثث، الأمر الذي حتّم المفاوضات، ولو لم يكن الجيش معنيًا بها بصورةٍ مباشرة.

توظيف الانتصار بدأ...

لا غبار على الانتصار الذي حقّقه الجيش اللبناني إذاً في معركة جرود القاع ورأس بعلبك، رغم كلّ ما يمكن أن يُحكى عن المعنويات التي انهارت بفعل اكتشاف "الحقيقة" في قضيّة العسكريين المختطفين، وعن "هيبة" الدولة المفقودة التي لم تجرؤ على أخذ قرار بـ"الثأر" لعسكريّيها بما يليق بهم وببطولاتهم.

ولكن، وبموازاة أهمية الإنجاز الذي تحقّق، فإنّ المفارقة المخزية تبقى متمثلة بتلك السجالات "الدونكيشوتية" التي كانت قد انطلقت منذ بدايةالمعركة حول التنسيق من عدمه، فإذا بها تتوسّع مع لحظة نهاية المعركة، بدل أن تخفت احترامًا أقله لخصوصيّة اللحظة، ولحرمة العائلات المفجوعة والثكلى التي لم تعجز عن استيعاب حقيقة استشهاد أبنائها، هي التي كانت ربما تتوقّع أن تزفّهم يومًا شهداء، ولكن على أرض المعركة.

هكذا، وعلى جري العادة، لم يكن غريبًا أن يعمد كلّ فريق لتلقّف الفرصة وتوظيف "الانتصار" بما يخدم أجندته، بعيدًا عن الأجندة الوطنية، التي يفترض أن تكون "جامعة" خصوصًا في مثل هذه الأوقات الدقيقة التي تشهدها البلاد. هكذا، تحوّلت "أولوية" ما تبقّى من قوى الرابع عشر من آذار مثلاً إلى نفي أيّ دور عمليّ لـ"حزب الله" في ما تحقّق على الأرض، بل تحميله مسؤولية "التسوية المذلّة" التي حصلت على الأرض، علمًا أنّ البعض غمز من قناة عودة أسرى الحزب "أحياء" وأسرى الجيش "جثثاً"، وأصبح "الشغل الشاغل" لبعض رموزها القول أنّ جدوى سلاح الحزب انتفت مع تحرير الأراضي اللبنانية من العدوين الإسرائيلي والتكفيري، وبات لزامًا عليه تسليم سلاحه لفتح صفحة جديدة من تاريخ الوطن.

وفي المقابل، كانت قوى "8 آذار" حريصة على إظهار الدور الأساسيّ والجوهريّ الذي لعبه "حزب الله" ومعه ​الحكومة السورية​ لإنهاء جرح العسكريين النازف، خصوصًا عبر الإيحاء بأنّ الحزب هو من حصل على المعلومات الحاسمة، وأنّ الجيش السوري كان متجاوبًا معه على هذا الصعيد، ولو على حساب إنهاء وجود عصاباتٍ إرهابيّة لا تزال ​سوريا​ تعيش بـ"جحيمٍ" بسببها منذ سنوات. كما كان لافتاً أنّ هذه القوى وجدتها فرصة لإعادة فتح الدفاتر القديمة، والمطالبة بمحاكمة المسؤولين عن وصول الأمور لما وصلت إليه، بدءًا من قوى "14 آذار" التي غطّى الكثير من مكوّناتها تواجد الإرهابيين على الحدود، على خلفيّة ما كان يسمّى بـ"الثورة السورية"، وصولاً إلى الوقائع التي حصلت في العام 2014، ليس فقط لجهة اتخاذ قرارٍ غير مناسب بوقف إطلاق النار سمح للإرهابيين بخطف الجنود، وعدم القيام بعمليّة عسكرية لإنقاذهم مهما كان الثمن، بل أيضًا لجهة وقوف بعض المتباكين اليوم على الجيش في المقلب الآخر، وصولاً لحدّ تخوينه.

الثأر المطلوب...

في العام 2015، أعدم تنظيم "داعش" الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقا أمام أنظار العالم. ولم تمرّ ساعات حتى أعلنت ​السلطات الأردنية​ إعدام القياديين في التنظيم الإرهابي ساجدة الريشاوي وزياد كربولي مع عدد من العناصر، كما قام سلاح الجو الملكي بعشرات الغارات على مواقع الإرهابيين.

قد تكون الدولة اللبنانية تأخّرت كثيراً. هي أصلاً نسيت أو تناست ملفّ عسكرييها المختطفين لسنواتٍ طويلة، رغم كلّ الصرخات والمناشدات من عائلاتهم. وهي لم تشنّ أيّ عملية لاسترجاعهم بالقوة، أو لفرض أيّ أمرٍ واقع.

ولذلك، فإنّ المطلوب اليوم، وبمعزل عن أيّ خلفيّات سياسية، إعادة تقييم ما حصل، ومحاسبة المقصّرين والمتخاذلين، تمهيدًا لـ"الثأر المطلوب"، وذلك حتى لا تذهب دماء أبطال الجيش هباءً، وعندها فقط يمكن القول أنّ النصر اكتمل، ومن دون أيّ تحفّظ...