أيّ شكلٍ ستستقرّ عليه دولة مثل تركيّا/أردوغان في عقدٍ مخيفٍ لم يستقرّ بعد من آثار التديّن والإرهاب والتشوّهات وضعضعة الدول من داخل؟ هو/هي تظهر وكأنّها تخلّص دستورها وقوانينها ومجتمعاتها المتنوعة ممّا علق بها من الغرب؟ تستحق تلك التجربة المغامرة السؤآل عن دولة لطالما سكنتها عقدة دخول ​أوروبا​ التي أعيتها وأوقفتها طويلاً أمام باب الغرب المفتوح على مصراعيه. لكنّ الباب يحشر وراءه الأعداد المخيفة والهائلة من النازحين العرب والمسلمين، والمفتاح في جيب الرئيس التركي الخارج(؟؟) من إسترضاء تلك القارة ومتابعة شروطها ومتطلّباتها الكثيرة.

بالأمس، كانت أوروبا علمانيّة، ولكنها اليوم تحت وطأة الإرهاب تعاين أساليب التفجير والطعن والدهس والتحدي والتخريب. غرب مشدود الأعصاب متديّن ، بالمعنى السياسي لا الديني بالطبع. إنّ أضخم ما يخشاه المفكّر المحدّق في ظلامات التاريخ، أن يولّد هذا الواقع الجديد في تعميم الإرهاب مجنوناً معاصراً شبيهاً بهتلر تفرزه المظاهر والنفوس العنصرية المريضة بين الغرب وبعض المسلمين بشكلٍ عام. يفترض فتح حدقات الفكر لمعاينة "إشكاليات" بل مخاطر المساكنة الطبيعية والتجاور بين "المسلمين" و"المسيحيين" في بلاد الغرب بكونها تخرج من أنساق القيم الى أنساق الأثمان ومن العقل الى العاطفة ومن الحكمة والحلم وتذكّر العبر المرّة القديمة الى التهوّر والجشع والإقتصاص والإنزلاق الى ما هو أكثر من خطير بين المجتمعات التي تدّعي التحديث ولكنها بالمعنى الحضاري تبدو اليوم بعيدة عن الحداثة. وشتّان ما بين الحداثة والتحديث أو ما بين اللب والقشرة. لنبق في ​تركيا​ نموذجاً ونسأل : ماذا يعني الإسلام لتركيّا؟

1- كان على تركيا مصطفى كمال أتاتورك لدى إعلانه الجمهورية التركية الجديدة مطعمة بالقوانين الفرنسية والإيطالية والسويسريةً مواجهة خمسة قوى: ​الأرمن​ في الشرق، والفرنسيون في كيليكيا، وايطاليا جنوب الأناضول، اليونان في أزمير وبريطانيا في اسطمبول. خرجت تركيا آنذاك ببصمات غربيّة. وخطا بها أتاتورك نحو الغرب قاطعاً صلاتها بالتاريخ والثقافة الإسلامية. وضع لها قوانين حلّت محل الشريعة الإسلامية، وفصلت بين الدين والدولة. مكّن وضع المرأة فألغى تعدد الزوجات، وفرض خلع الحجاب في المدارس والدوائر العامة وفي الجامعات، ومنحها حق الطلاق والترشح للإنتخابات كالرجال، واعتمد التقويم الغربي تقويماً رسمياً للبلاد، وفرض استعمال

الحروف اللاتينية مكان العربية في الكتابة ، وحوّل جامع ​آيا صوفيا​ الى متحف. كما ألغى الخلافة الإسلامية ووزارتي الشريعة والأوقاف ومنصب شيخ الإسلام، وأقفل الزوايا الدينية وتكايا الدراويش، ميسّراً ترجمة القرآن والآذان الى التركية.

وقد حصّن خطاه بقوة العسكر إذ منحه الحكم في ​مجلس الأمن​ التركي الأعلى. فجاءت الدولة موصوفة بالتسلّطية والقوة المستوردة. لم تكن تركيا فرنسية بالطبع ولا الإسلام دين الدولة فيها فرجال الدين في قبضة الدولة، وكان يسمح بممارسة الشعائر الدينية من دون التدخل في الحياة السياسية والثقافية والإجتماعية. كان النظام توفيقياً بين التزمت الديني والمواطنية التركية الى درجةٍ تسمح للشرائح المتوسطة من المجتمع، ب"نعمة" التزمت.

2- في ضوء هذه الخلفية التاريخية، تهادت تركيا أردوغان مع "​حزب العدالة والتنمية​" بخطىً بطيئة في مسار "الإسلام المعتدل" الذي باركه الغرب في مفاوضات معقدة. راحت تركيا وفقاً لمعايير اتفاقية كوبنهاغن تحدّق بنفسها منذ ال 2002 في مرآة الدول المعاصرة كنموذج مدلّع من الغرب تكيد فيه رقعة المسلمين، وتتحمّس لردم الهوة بين الشرق والغرب بعد مصيبة البرجين في 11 أيلول 2001. لقد أعيا أردوغان دولته المعتدلة، الى درجة إبعاد الجيش عن السياسة واستقلال القضاء وفرض حقوق الإنسان والتعبير وحماية المرأة وتخفيض عقوبات الإغتصاب والإعتداء الجنسي وجرائم الشرف، والإعتراف بالهويات المناطقية والإتنية( الأكراد) والتي تندرج كلّها في مايشبه القول: كلما داويت جرح سال جرح! وهكذا وجدت تركيا نفسها في ​الربيع العربي​ المتنقّل في قبضة أردوغان الوحيدة وفي قلب اليقظات الدينية والإرهاب الذي نسجته ووقعت أسيرة شباكه الحافل بالمصالح والأعباء الكبرى.

3- تظهر تركيا وكأنّها كلمة سرّ تحت وسادتها حيث حاجتها للغرب وحاجته لها. وبقي تفكيك كلمة السرّ لمن حولها ضرورة بعد الإلتباسات مع العرب والمسلمين وغير المسلمين من حولها المسنودة الى رفض تاريخي للعثمانية الجديدة التي تذكرهم بعصور القحط التي نشرها الأتراك فوق بلاد العرب ل514 سنة قبل أن تنهار إمبراطوريتهم معتلّةً في فراشها فاتحةً الطريق للتقسيم.

قد يتصوّر البعض، أنّ"إسرائيل" هي المستفيد الأبرز من فوضى الإرهاب وخصوصاً في سوريا والعراق والمحيط، وهذا تصوّر منطقي وصحيح، لكنّ المستفيد الحقيقي الأكثر دهاءً من هذا الوضع هي تركيّا. صحيح أنّها ترتاح نسبياً في حلف شمالي الأطلسي، وصحيح أنّ قاعدة عسكرية أميركية لوجستية ترضي غرورها ، لكنّ الأصحّ أنّ مناكفة مصر والخليج والعرب والغرب وأوروبا تحديداً يظهرها دولة لم تخلع تاريخها المرفوض بل هي متحالفة إستراتيجياً مع ​الإخوان المسلمين​ ومشاريعهم من بالإسلامية المتنوعة للتكفيريين بمختلف أصنافهم ونزعاتهم وألوانهم وصولاً الى نسخهم المبطّنة المتحوّلة إذ لم يعد يغطّي أنفها المحشور في شؤون العرب والمسلمين شيئاً يجعلها تتشارك مع "إسرائيل" لا في التلاعب بمستقبل الدول المجاورة ، بل بكراهية العرب وإحتقارهم.

ويبقى السؤآل ملحّاً: ماذا يعني الإسلام لتركيا؟