الحديث عن محاكمة الشيخ المتطرّف ​أحمد الأسير​ يحمل أوجهاً متعددة، لكن الأكثر وضوحاً، هو أن العقاب ينتظر دائماً أولئك الذين يستهدفون الكرامة الوطنية ويعتبرون أن الاعتداء على الجيش ال​لبنان​ي هو نزهة قد يعفو عنها الزمن أو تدخل ضمن المحميّات السياسية. تنفيذ حكم الإعدام بالشيخ الأسير، كما ورد في الحكم الأخير الذي حيّاه أهالي شهداء ​الجيش اللبناني​ في ​معركة عبرا​ واستبشر منه خيراً آخرون في معارك متفرقة لأبنائهم مع الإرهاب تراوحت بين الإهمال ومرور الزمن قد لا يكون هو خاتمة المتطرف اللبناني الذي كشف عن أرضية عدائية موجودة تجاه الجيش اللبناني يمكن تحريكها عبر خلايا إقليمية لتتفاعل بأسماء محلية.

حكم الإعدام الذي قد يصبح حكماً بالسجن المؤبد إذا تم الاستئناف كخيار ممكن، هو ليس آخر الطريق في القضية ولا آخر الرسائل، لأن صدور الحكم بحد ذاته يحمل الكثير من الإشارات السياسية. فالأسير الذي شكّل حالة لبنانية شاذة لم يعتد عليها الشعب اللبناني في ما يتعلق بهويّات الإرهابيين وأغلب التكفيريين كمرتزقة يعول عليهم في الحروب والازمات. وهو ما أنتهجته دول عديدة مثل السعودية وقطر و​تركيا​ و​الولايات المتحدة الأميركية​ و​بريطانيا​ وحتى ​فرنسا​ ودول أوروبية وغيرها من أجل تحقيق أهداف الدولة بدون اللجوء الى مقاتلين محليين حماية لهوية الدولة وصورتها أمام المجتمع الدولي. وهو أمر بعيد عن لبنان ايضاً الذي لم يشهد تاريخه محاولات للبنانيين في تكوين حركات إرهابية مرتبطة بمشاريع عقائدية تكفيرية او بالحد الأدنى تابعة لأجندة خارجية تحفز استهداف الجيش اللبناني واعتباره جيشاً للكفار.

تفيد العودة هنا إلى لحظة استهداف ​السفارة الإيرانية​ في بيروت والإرهابي الذي فجّر نفسه، حيث تبين أنه لبناني من ​مدينة صيدا​ خرج من ضمن دائرة الأسير الإرهابية الداعية لأعمال تخريبية مرتبطة بأجندة الدولة المفترضة للجماعات التكفيرية في سورية و​العراق​. وهنا فإن اختيار الانتحاري من الجنسية اللبنانية أيضاً لم يكن أمراً عبثياً ولا عابراً. فكان مقرراً للبنان أن يصبح نقطة جذب لأكبر عدد من أبنائه من اجل الانضمام الى المجموعات التكفيرية، وذلك موضوع ضمن إطار رسم صورة جديدة داخل المجتمع اللبناني على أن الفكر التكفيري هو أحد مكوّنات نسيجه.

مسألة محاكمة أحمد الأسير وإنزال أشد العقوبات به وبمعاونيه بين قتل وسجن مؤبد، هو اليوم إعلان عريض امام الجهات الإقليمية والدولية الراغبة بإعادة تجنيد أي عنصر في الإرهاب وتقليبه على الدولة ومؤسساتها، خصوصاً الجيش اللبناني. وهي رسالة مباشرة تقطع الطريق على كل من يجول في حساباته إعادة تجربة احمد الأسير اللبنانية الإرهابية من جديد بحيث سيكون أمام مصير مشابه وهو وحده جزء من «الحصانة» التي تفرضها المحاكمات تلقائياً فلا مهرب من العدالة عاجلاً أم آجلاً، فحتى لو تبدّلت أوجه الحكام والعهود، فإن المحاكمات ستطال المتّهمين الذين تثبت ورطتهم في حوادث إرهابية.

المسألة الثانية التي تدعم الحصانة للمجتمع اللبناني وتحصين البيت الداخلي ومراجعة الدوافع التي أدّت الى دعم مثل هذه الحركات هي أن ما جرى سيولّد قناعة لدى الإرهابيين الذين يتمّ تجنيدهم بدعم سياسي محلي أن هذا العدم لن يوفر لهم حماية او غطاء وأن شيئاً غير قابل لتأمين هذا الدعم أو الحضن. وقضية الأسير هي دليل واضح. وهي القضية التي حملت أسماء ومتهمين من الطراز الرفيع من العائلات السياسية العريقة.

كشفت تجربة الأسير ضعف تجربة احتضان مجموعات لبنانية عقائدية ضمن المجتمع اللبناني الذي يلفظ هذه المجموعات مباشرة ويصبح تعاون الأهالي جزءاً لا يتجزأ من هذه المساعي الأمنية الحثيثة. وكشفت معها ضعف الصمود السياسي الذي يمكن أن يتبدّل مشروعه في ليلة وضحاها من دون التمسك بما كان بديهياً وأولياً. فأؤلئك الذين دعموا الأسير وهو قام بالاعتراف بذلك أمام جهاز الأمن العام هم اليوم من ركائز الحالة التوافقية اللبنانية التي نشأت بعد انتخاب الرئيس ​ميشال عون​.

يدرك السياسيون الذين دعموا حركة الأسير بداية في وجه ​حزب الله​ والنظام في سورية بعد إصدار حكم الإعدام بالأسير أن ما جرى كان من الممكن أن يأخذ نواحي خطيرة، لولا بعض المعايير التي أخذت البلاد نحو التسوية الرئاسية ولولا تبدل الأوضاع في سورية، ما قوّض حركة هذه المجموعات في المنطقة كلها.

يسأل اللبنانيون أكثر من أي وقت مضى عن ضرورة محاسبة الذين دعموا وموّلوا وأوصلوا البلاد الى ما هي عليه اليوم وكيفية القدرة على مسامحتهم وإعادة أدوارهم الطبيعية لإدارة الحياة السياسية اللبنانية؟ وهو الأمر الذي يشكل بالنسبة اليهم موضع ريبة وحذر من إمكانية أن تتكرر هذه الأحداث من جديد عبر حماية سياسية بأجندة جديدة.

لكن الذي بات مؤكداً أن ما هو أبعد من إصدار حكم الإعدام يتعلق بقطع الطريق على فكرة توليد جماعات تكفيرية محلية بدعم داخلي، لم يعد يمر على مجموعات إرهابية صارت تنادي بكواليسها وإعلانها وافتضاح أمر داعميها الذين يعتبرون أول من أوقع بهم في شرك التطرّف.