منذ لحظة صدور الحكم ب​الاعدام​ بحقّ الإرهابي ​أحمد الأسير​ على خلفية أحداث عبرا، يسود الاعتقاد بأنّ الحكم سيبقى حبرًا على ورق، وأنّه لن ينفّذ، خصوصًا أنّ أيّ عقوبةٍ من هذا النوع لم تنفّذ في لبنان منذ سنوات، رغم صدور عشرات الأحكام، سواء في قضايا إرهاب أو قتل متعمّد، فضلاً عن كون الحكم الصادر غير مبرَم، وبالتالي فإنّ المنطق يقول أنّ وكلاء الأسير سيطلبون تمييزه خلال المهلة القانونية، لتعود الأمور لنقطة الصفر.

لكن، رغم كلّ ذلك، كانت المفاجأة ببعض المواقف الصادرة عن بعض الشخصيات الدائرة في فلك "​تيار المستقبل​"، التي وصفت الأحكام بـ"القاسية"، وحتى "الجائرة"، رغم أنّ في رقبة الأسير دماء الكثيرين من شهداء ​الجيش اللبناني​. وسواء انطلقت هذه المواقف من خلفيّة الحسابات الانتخابيّة أو المزايدات في الساحة السنية، فإنّها تطرح السؤال: هل يمكن لرئيس الحكومة ​سعد الحريري​ أن يوقّع مرسوم الاعدام في حال وصل إليه؟!.

عدالة قاصرة؟

من البوابة الصيداوية، بدأت بالظهور مواقف "تيار المستقبل" غير الإيجابية من الأحكام بأحداث عبرا، التي لم تتردّد النائب ​بهية الحريري​ بوصفها منذ اللحظة الأولى بـ"القاسية"، الأمر الذي ربطه البعض بالحسابات "الصيداوية" لا أكثر، باعتبار أنّ الكثير من الموقوفين على خلفية هذه الأحداث هم من أبناء ​مدينة صيدا​، الذين لا يمكن للحريري أن تتجاهلهم، علمًا أنّ هناك من يقول أنّ هؤلاء قد دُفِعوا دفعًا إلى الالتحاق بالأسير، نظراً لطبيعة الانقسام السياسي والمذهبي الذي كان قائمًا، من دون أن يدركوا إلى أين سيأخذهم "جنون" الرجل، وجنوحه نحو التطرّف.

إلا أنّ مثل هذا التحليل عادت كتلة "المستقبل" بذاتها لتدحضه حين تلقفت توصيف هذه الأحكام بالقاسية بل المتشدّدة أيضًا، ذاهبةً أبعد من ذلك بحديثها عن "عدالة قاصرة ومقصّرة"، موجّهة بذلك أصابع الاتهام للقضاء بشكلٍ مباشر ودون أيّ مواربة، ملمّحةً إلى أنّه يتشدّد في الأحكام بحقّ فئة معيّنة، ويغضّ النظر في المقابل عن جماعاتٍ أخرى، سواء في ما يتعلق بـ"سرايا المقاومة"، التي قالت الكتلة أنّها شاركت في خرق القانون وحملت السلاح وعمدت لاطلاق النار وارتكبت ​جرائم القتل​ بحق عدد من المواطنين الصيداويين العزل، أو في ما يتعلق بقتلة اللبناني ​هاشم السلمان​، والضابط الطيار سامر حنا، وصولاً إلى أولئك المتّهمين بجريمتي التفجيرين ل​مسجدي التقوى والسلام​ في ​مدينة طرابلس​.

قد تكون العدالة قاصرة فعلاً، كما تقول كتلة "المستقبل"، في حال لم تصدر قرارات اتهامية في كلّ هذه الجرائم، وجلّها جرائم موصوفة لا يفترض أن تكون خاضعة للنقاش والجدل، إلا أنّ مثل هذه الاستنسابيّة، لو افترضنا وجودها، لا يمكن أن تكون مبرّرًا، بأيّ شكلٍ من الأشكال، لأيّ تساهلٍ مع إرهابٍ موصوفٍ لا خلاف عليه أيضًا كالذي مثّله أحمد الأسير، الذي يشهد القاصي والداني ليس فقط أنّه تحوّل في مرحلةٍ من المراحل إلى "بوق فتنة" كاد يدخل البلاد والعباد في المجهول، ولكن أيضًا أنّه قاتل الجيش اللبناني عن سابق تصوّر وتصميم، وأسقط منه عددًا من الشهداء والجرحى من دون أيّ ذنبٍ.

أكثر من ذلك، إذا كان لدى كتلة "المستقبل" علامات استفهام عن ​معركة عبرا​ لم تجد أجوبة شافية حتى اليوم، وإذا كانت مصرّة على الحديث عن مشاركة "حزب الله" في هذه المعركة، رغم النفي الرسمي لهذه الرواية، فإنّ ذلك أيضًا لا يقلّل من حقيقة العنصر "الإرهابي" على خطّ هذه القضية، علمًا أنّ العديد من الفيديوهات الموثّقة التي عرضت تؤكد أنّ الأسير كان يصدر التعليمات لقتال عناصر الجيش من دون تردّد، بل كان يدعو بالفم الملآن لـ"تخزيقهم"، غير آبهٍ بتداعيات ذلك.

الحكم لن ينفّذ...

كلّ هذه الحقائق يدركها "المستقبليّون" جيّدًا، ولذلك فهم حرصوا على "التبرؤ" من أحمد الأسير منذ لحظة انخراطه في المعركة في وجه الجيش اللبناني قبل سنوات، بعدما كانت العلاقة معه "متأرجحة" في السابق، على الرغم من "الجبهات المفتوحة" التي كان الرجل قد أعلنها في مواجهة رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري. وتمامًا كما حاولوا يومها التقليل من الأضرار "الشعبية"، بعدما استطاع أحمد الأسير استمالة الكثير من القواعد "المستقبليّة" المعبّأة بما يكفي مذهبيًا لعدم تقبّل أيّ تنازلاتٍ أيًا كان عنوانها، وتفضيل الخيارات "المتطرفة" عليها، فإنّهم اليوم يسعون للتقليل من الأضرار، عبر الإيحاء بأنّهم يقفون إلى جانب الجمهور السنّي عمومًا، والصيداوي خصوصًا، الذي لم يبدِ ارتياحًا لهذه الأحكام، التي زادت من شعوره بـ"المظلوميّة" في مكانٍ ما، مقارنةً بالفئات الأخرى.

وإذا كان رئيس الحكومة سعد الحريري ينأى بنفسه، على الصعيد الشخصي، عن أيّ تعليق على القضية إيجاباً أو سلباً، فإنّ كلّ الدلائل تشير إلى أنّ الحريري لن يسجّل على نفسه توقيع مرسوم الإعدام في نهاية المطاف، ولو وصل إلى يديه، ولو أنّ البعض يحاول التأثير عليه عبر القول بأنّ والده رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​ كان قد وقّع على مرسوم إعدام قبل استشهاده بعام، وبالتالي لم يكن لديه مشكلة مبدئية مع الاعدام. لكنّ القضيّة هنا لا تقتصر على البعد المبدئي، إذ إنّ الحريري يدرك أنّ توقيعه على مرسومٍ من هذا النوع سيضرّه في داخل بيئته ولن ينفعه، خصوصًا أنّ القضية حساسة ولا تحتمل المزايدات، في وقتٍ أصبح واضحًا أنّ خصومه ينتظرونه "على الكوع"، ولن يجدوا أفضل من خطوةٍ بهذا الحجم لإسقاطه بـ"الضربة القاضية"، خصوصًا أنّ أحدًا لن يستطيع ضبط الشارع في مثل هذه الحالة.

ولكن، أبعد من ذلك، يسود اعتقاد بأنّ أحدًا لن يُحرِج رئيس الحكومة بهذا الشكل، بمعنى أنّ إعدام الأسير لن ينفذ، حتى لو أصبح الحكم مبرمًا، وأنّ أحدًا من المعنيين بالمرسوم إضافة إلى رئيس الحكومة، أي رئيس الجمهورية ووزير العدل، لن يوقّعه، لاعتباراتٍ وحساباتٍ عديدة، من بينها التوصيات الدولية بتجميد هذه العقوبة تمهيدًا لإلغائها، من دون أن ننسى قاعدة "6 و6 مكرّر"، التي لطالما تحكّمت بهذه العقوبات على مرّ العقود السابقة، فكيف بالحري اليوم في ظلّ الغليان المذهبي على أكثر من صعيد.

استنسابيّة؟!

بمُعزَلٍ عما إذا كان حكم الاعدام الصادر بحقّ أحمد الأسير قابلاً للتطبيق أم لا، يرى كثيرون أنّ توصيفه بالقاسي والجائر من قبل تيار "المستقبل" بالتحديد لم يكن موفّقاً، سواء بالمُطلَق، أو بسبب ما يوصَف بالاستنسابية.

فإذا كان حكم الإعدام بالمُطلَق قاسيًا وجائرًا، رغم أنّ الأسير مسؤولٌ بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر عن قتل العشرات من شباب الجيش، هناك من يسأل في المقابل عمّا إذا كان تيار "المستقبل" سيعتبر أيّ حكمٍ بإعدام قتلة رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري قاسيًا وجائراً. وعلى المنوال نفسه، هناك من يسأل إذا كان مثل هذا الحكم سيُعتبَر جائرًا فقط لأنّ أيّ إجراءات لم تتخذ بحقّ قتلة رجال دولة آخرين، بينهم رؤساء حكومات.

لا يجوز أن تكون العدالة استنسابية. هذا صحيح، إلا أنّه لا يعني التغاضي عن جرائم، لأنّ مرتكبي غيرها لم يُعاقَبوا. المطلوب معاقبة الأول كما يستحق، والضغط في المقابل للاقتصاص من الثاني أيضاً، لا ربط الأمرين ببعضهما كما يحصل!.