ترشدنا مشاهد إختلاط العرب والمسلمين مع الغربيين في عواصم العالم الى معضلات كبرى متجدّدة حافلة بالخيبة والحذر والعصبيّة. تبرز هذه المشاهد واضحة وحادّة في المطارات والقطارات والساحات العامة والمدارس والمقاهي كما في المواقف السياسية المتناقضة وفي أعين رجال الشرطة والسلوك الإجتماعي العام والمؤلّفات والكتابات اليومية الحادّة والمسارح ودور السينما ووسائل التواصل الإجتماعي وغيرها من أنماط الثقافة المتحرّكة. وأقصد بالثقافة المتحركة التأكيد على حراك البشر السهل والسريع في عصر الفضاء والعولمة بقصد التبادل والسياحة والأعمال ذات الطبيعة الكونية، وهذا ما لم نشهده في عصور إكتشاف الأرض والمياه الغابرة. ولنفترض أنّنا اليوم على طريق الخروج من العنوان الغربي البائس أعني "صراع الحضارات" عبر مآسي"الربيع العربي" المستورد والمقيم ، فإنّنا نسلك طريقاً طويلاً من فوضى إختلاط الثقافات وتداخلها وصعوبة أو إستحالة الإنتماء الى حضارة تكاد تكون عامية.

هناك إستعادة واضحة للأحقاد والعنصرية يصعب ضبطها وإستحضار فكري للقراءات الملتوية التي عادت تنبش التواريخ القديمة محكومة بخلفيات الصراع المدموغ بلحظات مرّة حافلة بالتشويه والإنتحال والتناقض والصراعات الدموية.

وتكاد تغيب في هذا المجال "النصوصٍ البريئة" Les discours innocents التي لطالما دعا إليها "رولان بارت" أستاذي في الكوليج دو فرانس بحثاً عن تنظيف العلاقة بين الشرق والغرب لا بالمعنى الديني والسياسي وحسب بل بالمعنى الثقافي. تعني البراءة هنا تخليص العقل والسلوك من ترسّبات الأحكام السلبيّة المتبادلة والمتوارثة أوالتأثيرات الإيديولوجية القاسية التي تقدّم الغربيين والمسلمين بكونهم قوى إنتشار ثابتة يصعب تغيير علاقاتهما. الإسلام خلّص العرب من الجاهلية والوثنية وإنتشر نهائياً في بلاد العرب وتركيا وإيران وإنتشر مؤقّتاً في جنوبي أوروبا عبر إسبانية وحقّق إنتشاراً جزئياَ في بيزنطية. وإنتشر العالم الغربي نحوه ليضع قوّة

إبتكاره وإنتشاره مدناً معاصرة وإختلاط ثقافات عربيّة وإسلاميّة منضبطة الى حدّ كبير.

لست أربط قطعاً تقدّم البراءة بالتفجيرات وتعميم الخرائب الأخيرة بكونها نتائج وردود أفعال، لكنّني أضيء على وجهها الذي يزداد ظلمةً في الوجدان البشري لا في ضوء إعتبار الغرب السياسي لنفسه قوّة إنتشار واقعية وعقلانية وحضارية متحرّرة ربطت بها المسيحية واليهودية مقابل قوّة إنتشار صوفية حالمة عقائدية ومكتفية لكنّها خرافية ودينية متخلّفة.

تصبح المواجهة بين القوّتين كارثية على الإثنين لأنّ أسلحة التنافس بينهما غير متكافئة ولأنّ معظم الفكر الغربي اليوم راغب عن قصدٍ أو عن قصور في ركوب موجة الخلط بين الثقافات والحضارات وإظهار تميّزه مع أنّ الإختلاط البشري صار أقوى بكثير بين الثقافات والحضارات وشعوب العالم في عصر العولمة الذي يسقط من حسابه حدّة التمييز بين مناحي الأرض في عصر الفضاء. هكذا تتراجع الحضارة العالمية مجدّداً في إستقطاب إنتباه الثقافات البشرية والطموح الى الإندماج فيها، لأنّ الدول العظمى تنسى قوة إنتشار الثقافات وإختلاطها وسهولة إقتناء وسائل الحضارة وأدواتها وأنظمتها العلمية والتقنية دون أن يكون لها تأثير كبير في نشوء الصناعة وتراكم الخبرات وتحقيق التطوير لردم الهوّات بين نهضة المجتمعات أوتخلّفها.

كان يمكن المحاججة الفكرية حول خطورة الخلط بين الثقافة والحضارة على إعتبار أنّ إمكانيّة التمييز بينهما كانت واسعة، خصوصاً إذا إعتمدنا الهوية الثقافية الضيقة لا بكونها المحصلة المعرفيّة والقدرة على الإبتكار أو القوّة التي يتمتّع بها فرد أو جماعة أو شعب، بل بكونها تجعل تلك المحصّلة في طرائق العيش والتقاليد والأفكار للتفاعل بها مع الآخرين والتأثير بهم. فالشعوب المستغرقة في بدائيتها المحكومة بالغريزة أو الفطرة هي صاحبة تقاليد بعيدة أو مجهولة وخاصة جدّاً ويستحيل خرطها في المنظومة الثقافية يقابلها الشعوب التي كانت الثقافة تشغل حيّزاً متقدّماً من حضورها. كانت الحضارة على إرتباط وثيق بشيوع المدنية ونشوء الدول وتفاعل ثقافاتها. إنّنا نجد أنفسنا، في هذا العصر، منخرطين بأساليب الحضارة والثقافة بعدما سقطت الأغطية عن الشعوب والأوطان بفضل التواصل. هذا عصر معرض الثقافات العالمية عبر الشاشات المتنوّعة وخروج الحضارات من أطرها التقليدية المتشاوفة بحثاً عن تعريفات جديدة للحضارة.

تخرج الثقافات تباعاً، في هذا العصر، من أطرها الذاتية والوطنية أوالقومية المتنوّعة وتلفحها الرياح العالمية مهما حاولت الحفاظ على خصوصياتها. وإذا ما تشبّث شعب

ما بثقافته محاولاً الإنعزال فقد يحكم على نفسه بإستجلاب المخاطر لأنّ أقطار العالم باتت تتزاحم، في عصر العولمة، للمزيد من تحقيق الإنفتاح والتحديث والتجديد وفتح النوافذ لثقافاتها الى جانب ثقافات العالم والإختلاط بها. نعم، يقود الوضع الإنغلاقي الذي يكبّل رياح تفاعل الشعوب مع الخارج الى إنفجار سريع أو إنقلاب وطني أو الى صراعات وحروب سهلة داخلية بين المجموعات المتنوّعة الثقافة في الوطن الواحد أو في الأوطان المتعدّدة المتجاورة. وهذا ما يجرّ، غالباً، الى المزيد من الإنحطاط والتراجع والصراعات بدلاً من أن يكون طموحاً الى المشاركة في الثقافة الإنسانية العالمية بكونه الطريق الأسلم في قرع أبواب الحضارة العالمية.

ليس هناك من ثقافة لا تتطلّع الى العالمية مع أنّ الوصول إليها يختلف من دولةٍ الى أخرى وفق تمتّع أنظمتها بالقيم الإنسانية التي ترفعها من مستنقعات الصراعات الضيقة سواء أكانت محلية أو إقليمية أو عالمية توخيّاً للإنخراط في الحضارة العالمية.

طبعاً، لا يفترض أن يقودنا هذا الإختلاط بين الحضارة والثقافة الى الإقرار بالمساواة بين المصطلحين، لأنّ الحضارة ليست مستوعباً جاهزاً للقيم الهائلة التي تختزنها أو يتبادلها أبناء الثقافات في الشاشات. هناك إشكالية أكبر تدفعنا الى إعادة النظر في مضامين الكثير من المصطلحات ومعانيها. الثقافات تتقدّم وتنتشر كثيراً في عالم الفضاء الإفتراضي مقابل تراجع الحضارات بمعانيها التقليدية الذاوية . باتت المظاهر الثقافية هي الحامية والحاملة لبقايا الحضارات بدلاً من أن يكون الأمر، كما إعتدنا عبر التاريخ، عكس ذلك عندما تحمل الحضارة الثقافة لتأمين ديمومتها وحضورها واللحاق بها عبر التاريخ من دون خسارة مصالحها في أرجاء العالم.

هكذا صرنا نلحظ في العقدين الأخيرين نوعاً من النقد اليومي والقاسي لكلّ ما يعرف أو له علاقة بالمجتمع الدولي أو الأسرة الدولية. وهناك دعوات يومية لإصلاح الخلل الفاضح في المؤسسات الدولية والأمم المتّحدة ومجلس الأمن، وكأننا على أبواب عالم تميل فيه كبريات الدول مثل الولايات المتّحدة الأميركية ودول أوروبا الى التراجع نحو القوميات الضيّقة خلافاً لمجريات ما يحمله عصر الإنفتاح. وقد يوحي المشهد بأنّ الثقافات مهما كانت صغيرة فهي جاذبة لإنتباه البشرية التائقة للنصوص البريئة بين الشعوب في الدول العظمى أو الصغيرة.