كان الإنسان الرقمي أو الإنترنتي أمريكياً في سلوكه وملامحه قبل عقدين، وكنا نراه في تجمعات محددة واضحة في عواصم العالم، لكنه صار اليوم عالمياً يحمل هوية متحركة يجوب حاملها العالم قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين مستهلكاً في عقد واحد ما تحتضنه «الفاست فود» أي الوجبة السريعة بالماكدونالدية والشاشات العملاقة والتلويح بالأيدي إلى فوق مرتدياً الجينز الممزق ويدير أعماله بين عواصم العالم بالقمصان الزهيدة الثمن التي لا ياقة لها تيمناً ب​بيل غيتس​ صاحب ​مايكروسوفت​ أو ​مارك زوكربيرغ​ صاحب الفيس بوك وغيرهما كثيرون.

لماذا هذه الملاحظة؟

بصرف النظر عن التوظيف المعاصر والشائع والمغرض للدين على المستويين العقائدي والسياسي بين دولة وأخرى، وبعد أن ماتت نظرية صراع الحضارات التي غزت العقدين السابقين وخرّبت أرض العرب، يمكننا أن نطرح السؤآل:

ما هو الرابط بين صاحب مايكروسوفت أو فايسبوك وأرسطو أو إفلاطون أو هايدجر؟

أو ما الفرق اليوم بين إنسان وآخر مغربياً خليجياً لبنانياً أو عربياً كان أو أوروبياً أو آسيوياً أو كندياً أو أمريكياً وإلى أي بلد انتمى؟ أطرح هذا السؤال وفيه شيء من التحدي لنفسي أولاً كما للعديد من الكتّاب والمفكرين والإعلاميين الذين يجلدون أنفسهم وأوطانهم وثقافاتهم إلى درجة تكاد تشعرك وكأن النقائص باتت ملازمة لأحكام الشعوب وللآراء الخجولة بثقافاتها.

قبل الإجابة المبدئية عن السؤال، أطرح سؤالاً ثانياً؛ من يرشدني اليوم إلى الحضارة المعاصرة أو معناها أو هويتها أو الدولة التي تختصر الحضارة ؟ ألا يحق لنا القول بأن هذا المفهوم صار وهماً بالمعنى التقليدي؟ هذا سؤال يأخذنا إلى التفكير المباشر مثلاً بالحضارة الهندية القديمة والهيلينية (التسمية التي أفضلها على الإغريقية) أو الرومانية أو البيزنطية أو الأوروبية؟ أين هي الحضارة ​المسيحية​ وماذا يحصل اليوم بعد دك بقايا الحضارات وتشويهها شرقاً وغرباً ؟ نحن، في الواقع، لا نفترق كثيراً عن هؤلاء إلا في ميادين الثقافة، وأسوقها هنا بمعناها الفرنسي أي بطرائق المأكل والملبس والنوم وأساليب الحياة الاجتماعية التي قد تفترق بالشكل بين الشرق والغرب بشكل عام. لو أخذنا الموضة، مثلاً، فإننا نتمتع بلباس الشرق والغرب وثقافته وفقاً للزمان والمكان والإمكان. نحن بمدننا وثقافاتنا لسنا خارج العصر. تلك هي عظمة الظاهرة التي يتساوى فيها المنتج والصانع بالمستهلك إلى حد أن يلهث الصانع مهما كان كبيراً خلف المستهلكين.

الأغنياء والمستهلكون الكبار فرضوا على مصانع العالم ومبتكريه ما صار يعرف بالصناعات الخاضعة لأذواقهم وأمزجتهم وأقيستهم أو ما يعرف ب«الصناعة على القياس». هي لعبة تحولات الحضارة التي لم يعد مسموحاً القول بأننا نخلطها بالثقافة. الأفضل التفكير باختلاط الثقافة بالحضارة إلى حدود انتفاء الحضارة وأفولها عن المجتمعات المحددة.

لنقل ببساطة إن عصر العولمة والإلكترونيات والشهرة والتواصل يفرز، إذن، ظاهرة غياب الحضارات وأفولها، إذ هي تنسحب تاركة مقاعدها العالية وبريقها العريق للثقافات المتنوعة مهما كانت غريبة أو ضحلة فهي مرغوبة اليوم ويمكن متابعتها من شعوب العالم. وتوخياً للموضوعية نفترض أن الفروقات تذوب بسرعة هائلة بين المجتمعات التي تتصالح مع التكنولوجيا السهلة إلى درجة منح الإنسان المعاصر ملامح ثقافة المجتمع الرقمي العالمي الذي لم يتبلور بعد.

يعني المجتمع الرقمي مجتمع التكنولوجيا الذي يمكن وضعه إلى جانب الهواء والماء والغذاء حيث الرموز والأرقام والصوت والنص والصور المكتوبة والمنطوقة والتواصل العالمي الوهمي الجميل المحكوم بالصدفة والعشوائية والمشاعية وقتل الزمان. ويشغل حركة هذه المجتمعات الناس المزودين بقدرات وطاقات اتصالية من دون أن يكونوا أصحاب اختصاص أو كفاءة. تكفي معظمهم الخبرة السهلة الاكتساب.

كنت تذهب إلى ​باريس​ أو لندن أو أي بلد غربي فينتابك شعور بالدونية أحياناً والإشفاق أحياناً أخرى على البؤس الذي خلفته الحياة في تلك المدن الزاهية العظيمة و«المتوحشة» التي لا تنام ولا تهدأ. هذه المدن عينها اليوم المأهولة بخليط هائل من جنسيات الأرض الراكضين في أنفاق المترو والساحات وراء لقمة الأكل والاكتفاء البسيط، سحبت معظم قاطنيها بشكل هائل إلى نوع جديد من الركض نحو الاتصال بالآخر سواء أكان من جنسه أم لا، تحدوهم الرغبات الرقمية نحو الشاشات الصغيرة. يبدو الإنسان متلهفاً للانتساب إلى هذا اللحاء البشري المرعب خصوصاً أنه انتساب يعني في أقصى ما يعنيه أنه موصول بالبشرية صامتاً أو هامساً يسمع صداه أو صدى الآخر.

في ضوء ما تقدم، تنقشع الظلمات، وتنكشف مواقع الجماعات والشعوب بين من هو مسترخ على ضفاف الأرض ومن يسابق الشمس التي باتت كأنها لا تغرب عن الأرض على الإطلاق بالمعنى التواصلي والابتكاري التحديثي في مختلف المجالات. نشير هنا إلى التحولات الهائلة التواصلية وأجهزة الاتصال الشبابية التي لا حدود لبراعتها وإبداعاتها وأجيالها في اختصار الرقعة الأرضية ملعباً للأجيال الجديدة في الأرض التي تميل إلى حمل الهويات المائعة.

من وكيف نحدد دوائر الإنتاج والاستهلاك ومواطنها في عصر اختلاط الأجناس البشرية المتقاربة في أفكار التكنولوجيا وأجيالها المتكاثرة؟

أطرح هذه الأسئلة للتفكير والتجديد على اعتبار أن التجديد هو إضافة إلى القديم على الأقل، وأتصور أن الأفكار والنظريات والعقائد والأديان، لعبت وتلعب دورها سلباً وإيجاباً، وعلى مدى العصور، في ترابط متين مع التلاقي والتعارف والتبادل في أساليب العيش والحضارة التي تذوب في خليط عالمي من الثقافات التي تتحول، ونحن في صلبها، إلى معرض ثقافات عالمية تشغل الأزمنة الآتية.