ينتظر أن تشكّل مناقشة موازنة 2018 التي ستبدأ في ​مجلس الوزراء​ الاسبوع المقبل ومن ثم في ​مجلس النواب​، محطة سياسية ـ إنتخابية جديدة لمختلف الافرقاء سيستغلّونها لتعزيز حضورهم في الميدان الانتخابي إستعداداً لخوض الاستحقاق النيابي في ايار 2018.

والواقع انّ بعض الأفرقاء قد بَكّروا في خوض معركتهم السياسية ـ الانتخابية ضد خصومهم، عبر البدء بقصفهم بالاتهامات من مختلف العيارات للنيل منهم إنتخابياً في بيئاتهم السياسية والطائفية والمذهبية، عبر استحضار ماض كانوا متورّطين فيه جميعاً.

ويصادف في بعض الحالات انّ هؤلاء الأفرقاء المتخاصمين ينتمون الى طائفة واحدة او من مذهب واحد، ولا يجد بعضهم ضيراً في ان يتولى هذا القصف بعض مَن هم من غير طوائفهم، ربما تجنّباً من مواجهة مباشرة مع الخصم قد ينجحون فيها، او لإظهار «وطنية عابرة للطوائف والمذاهب» غير مُدرك أنه لم يعد يصدّقها أحد في زمن التشنج الطائفي والمذهبي الذي لم يتبدّد نهائياً بعد على رغم كل محاولات المحاولين.

وفي ​لبنان​، وكالعادة يحتاج البعض، إن لم يكن الجميع، في المعارك الانتخابية الى الخطاب السياسي والطائفي والمذهبي لاستمالة الناخبين اليه، فضلاً عن الحاجة الى المال لتأمين النفقات الانتخابية.

ولكنّ البعض يوزّعه رشى، فضلاً عن الرشى الخدماتية عبر إدارات الدولة او من خارجها. ولذلك، تُطرح في هذه الايام علامات استفهام كثيرة حول كل ما يطرح من مشاريع تلزيمات بمئات الملايين من الدولارات في مجالات عدة، ويكاد لا ينكر بعض العاملين عليها نيّتهم «السَطو» على مبالغ كبيرة و»على عينك يا تاجر» ومن دون خجل او تخفٍّ لتأمين تلك «النفقات» الانتخابية لاستمالة الناخبين.

ويعترف أحد الاقطاب السياسيين بوجود نيّات جدية لدى البعض للسطو على مال عام من خلال تلزيمات مختلفة الأحجام، ويؤكد انّ ثمة من يُمعنون في العمل لتحقيق «البزنس» من خلال تلك التلزيمات لتعزيز قدراتهم المالية لضمان الفوز بكتل نيابية وازنة لأنّ ​قانون الانتخاب​ الجديد الذي يعتمد النظام النسبي يرتب عليهم جهوداً او امكانات سياسية ومالية ضخمة لضمان الوصول الى تلك الكتل، وذلك على عكس القانون الأكثري السابق الذي كان يضمن لهم الفوز أحياناً بقليل من الانفاق المالي.

ولذلك، فإنّ قوى سياسية توصّلت الى اقتناع بأن لا شيء يعوّضها الحاجة الى المال الكثير في الانتخابات سوى تسعير الخطاب الطائفي والمذهبي، حتى ولَو تسبّب بصدامات طائفية ومذهبية ربما تكون مفيدة، في رأيها، لاستمالة الناخبين بمقولة «يا غيرة الدين والدنيا» عبر إشعارهم بـ»خطر وجودي» يتهدّد الطائفة برمّتها مَصدره «متآمرون» في داخلها او من طوائف ومذاهب أخرى.

والنقاش المنتظر والمُتلفز لموازنة 2018 سيكون «البروفا» الثانية لـ«الامتحانات الخطابية» التي ستخضع لها مجموعات من النواب بُغية خَطب وِد الناخبين عبر شاشات التلفزة في عملية «إستِغشام» مُتعمّدة لهؤلاء الناخبين الذين، وبعد كل ما مرّوا به من مرارات وخيبات، يفترض انهم خبروا مدى التزام «نوّابهم» الوكالة التي منحوهم إيّاها للتعبير عن تطلعاتهم وخدمة قضاياهم داخل الندوة النيابية وخارجها.

على انّ العِبَر السياسية التي يستخلصها سياسيون من مناقشة موازنة 2017 وإقرارها يتصَدّرها انّ عمل المؤسسات بدأ ينتظم مالياً إذ أُقِرّت موازنة مالية للدولة للمرة الاولى منذ 12 عاماً حتى ولو جاءت بلا مفعول رجعي (اي «قطع الحساب») وقد صُرِفت كل أرقامها، ولكنّ إقرارها يفترض أن يشكّل استعادة لحيوية انتظام المالية العامة ربطاً بموازنة 2018. لكنّ تأجيل إقرار «قطع الحساب» كان هروباً، بل كان تأجيلاً سياسياً لقنبلة موقوتة كبيرة، يشكّلها «قطع الحساب» هذا، يمكن انفجارها أن يَنسف كل العلاقات السياسية بين بعض الافرقاء السياسيين.

وكان واضحاً، حسب هؤلاء السياسيين، انّ التفاهم الرئاسي والانسجام بين الرئاسات الثلاث الذي بَدا أخيراً، قد انعكسا على مناقشة ​الموازنة​ ليشيرا الى انّ الجميع تقاطعوا على عدم التصعيد خدمة لمصالحهم، وشَكّل كلام رئيس ​الحكومة​ في نهاية المناقشة استكمالاً لكلامه في ​الفاتيكان​، والذي رَسم فيه خلاصة سياسية وهي بقاء الحكومة واستمرارها ومن ثم استمرار التسوية التي حَملت الرئيس ميشال عون الى ​قصر بعبدا​.

كما انّ «ملائكة» لقاء كليمنصور الأخير رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ والحريري ورئيس «اللقاء الديموقراطي» النائب ​وليد جنبلاط​ كانت حاضرة في الاجواء النيابية، وكذلك في حال انسجام بعد تبديد مناخ التصعيد الذي شابَ البلد أخيراً بنتيجة السجال بين وزيري الداخلية ​نهاد المشنوق​ والخارجية ​جبران باسيل​، واللذين نُودي عليهما من عون والحريري للتوقّف عن هذا السجال، فلَبّيا النداء بلا تردّد. وهذه الخلاصة السياسية أظهرت ايضاً انّ أولوية الاستقرار وانتظام عمل المؤسسات ورعاية مصالح الناس «هي السائدة وتشكّل إرادة الجميع».

وفي ضوء كل ذلك، يبدو انّ لبنان التقطَ فرصة ثانية بِصَدّه «الهواء الأصفر» الناتج من التصعيد الذي يشهده الاقليم، والذي تقوده ​الادارة الاميركية​ ضد ​ايران​ وحلفائها. وكذلك أكّد لبنان من خلال التطورات السياسية التي شهدها في الأيام الاخيرة، ولو الى حين، معادلة الاستقرار وتناغم المصالح بين الاطراف السياسيين الداخليين، وهذا ما يَتبدّى في جداول أعمال جلسات مجلس الوزراء الزاخرة ببنود تعيينات ومشاريع متنوّعة يحاول المعنيون تسييلها إنتخابياً إستعداداً لخوضهم الاستحقاق النيابي.

على انّ اللافت في هذا الاتجاه ايضاً انّ مبلغ الألف مليار ليرة الذي وَفّرته الحكومة عند إعادة درسها مشروع موازنة 2017، إنقضّ عليه مجلس النواب خلال مناقشة الموازنة، وأطاح القسم الأكبر منه لمصلحته وسَيّله في الموازنة تحت عناوين إنماء المناطق وغيرها خدمة لمصالح النواب الانتخابية، ولم يبقَ من هذا المبلغ سوى مئة وستين مليار ليرة تمّ تدويرها لموازنة 2018.