كان يكفي أن يقول الرئيس ال​إيران​ي ​حسن روحاني​ أنّه "لا يُمكن اليوم اتّخاذ إجراءٍ حاسمٍ في ​العراق​ و​سوريا​ و​لبنان​ وشمال إفريقيا ومنطقة الخليج من دون إيران ورأيها"، حتى يجد اللبنانيون موضوعًا "مصيريًا" جديدًا يتلهّون به لصرف الأنظار عن استحقاقاتهم المجمّدة والمؤجّلة، ويستثمرونه في الوقت نفسه على طريق الانتخابات المنتظرة في أيار 2018، إذا صدقت النوايا.

ومنعًا لأيّ "استغلالٍ" ممكن في موسم "المزايدات" الحافل، قرّر رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ أن يسبق الجميع، فسارع للردّ "افتراضيًا" على الرئيس الإيراني، رد لم يشبع غليل خصومه، الذين اعتبروه مجرّد "ضحكٍ على الذقون"، ما لم يقترن بـ"ترجمة عمليّة" على شكل "استدعاءٍ" للسفير الإيراني من قبل رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ أو وزير الخارجية ​جبران باسيل​. فهل يمكن لذلك أن يتحقّق؟ ولماذا لاذ الرجلان بالصمت؟

استقواءٌ وغطرسة؟!

بطبيعة الحال، فإنّ قراءاتٍ متعدّدة ومتباينة حدّ التناقض لكلام الرئيس الإيرانيّ برزت، وفق الانقسام العموديّ اللبنانيّ الذي يتحكّم بكلّ شيء، وما يترتّب عنه من ازدواجيّةٍ لا لبس حولها ولا غبار عليها، إذ كان من الطبيعي أن يرى معارضو إيران في التصريح الإشكاليّ فرصة ذهبية للانقضاض عليها وعلى حلفائها باعتبار أنّ الموقف يدلّ على استقواء وغطرسة، ولا يرى فيه المؤيّدون في المقابل ما يمكن أن يتخطّى "توصيف الوقائع" في أسوأ الأحوال، مع قابليّة كلّ فريق لقلب موقفه رأسًا على عقب فيما لو اختلفت هوية المتحدّث.

هكذا، وجد معارضو السياسة الإيرانية في المنطقة في كلام الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني "إهانة" للدولة اللبنانية برمّتها، بكافة مؤسساتها وقياداتها، باعتبار أنّ موقفه أتى ليوحي وكأنّ إيران هي "مرجعية عُليا" للحكومة اللبنانية وغيرها من الحكومات في المنطقة، ينبغي العودة إليها قبل اتّخاذ أيّ قرارٍ مفصليّ أو مصيريّ. وبرأي هؤلاء، فإنّ التعامل الإيراني مع لبنان بهذا الشكل ينطوي في مكانٍ ما على استخفافٍ بلبنان كوطنٍ حرّ، سيّد، وقبل كلّ ذلك، مستقلّ، وبالتالي فإن لا حقّ لإيران أو لغيرها أن تملي على لبنان ما يجدر به أن يفعله، أو أن تُظهِره بموقع "التابع" لها بشكلٍ أو بآخر.

في المقابل، كان من البديهيّ أن يرى مؤيّدو إيران في مثل هذه "الاجتهادات" تضخيمًا في غير مكانه، حيث اعتبروا أنّ المواقف التي أخِذت على هذا الصعيد بنيت على "تحريف واجتزاء" لكلام الرئيس الإيرانيّ أخرجاه من السياق الذي أتى فيه، والذي كان الرجل يحاول من خلاله أن يعكس ثقة الجمهورية الإيرانية بوزنها الاستراتيجيّ في المنطقة. وبالتالي، يقول هؤلاء أنّ كلّ ما قصده الرئيس الإيرانيّ هو أنّ إيران استطاعت أن تفرض نفسها لاعبًا أساسيًا في المعادلة، مع ما يتطلّبه ذلك من مراعاةٍ لمصالحها بصورةٍ تلقائيّة.

لكن، بين الرأيين، يبرز رأيٌ ثالثُ ينطلق من حقيقة مثبتة وهي أنّ "المزايدين" هم الذين أوصلوا الأمور إلى ما وصلت إليه، وبالتالي عليهم أن يلوموا أنفسهم أولاً. بمعنى آخر، فإنّ هؤلاء الذي ينكرون اليوم حجم النفوذ الإيراني في لبنان، هم أنفسهم من ساهموا وما يزالون في زيادة حجمه، وما التسوية الرئاسية الشهيرة التي أفضت إلى انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية سوى خير دليل، خصوصًا أنّ عون كان المرشح المُعلَن الوحيد لـ"حزب الله"، الذي يتّهمه هؤلاء بأنّه "الذراع الإيرانية" رقم واحد في لبنان.

للاستدعاء شروط...

عمومًا، وبمُعزَلٍ عن حقيقة "النوايا" الإيرانيّة ودلالات كلام الرئيس روحاني ومقاصده، ثمّة حتى في داخل "​التيار الوطني الحر​" من يقول أنّ مثل هذا الكلام مرفوضٌ، إذا كان صحيح المصدر، لأنّه، فضلاً عن كونه محرجًا لرئيس الجمهوريّة في مكانٍ ما، فهو يضرّ أكثر ممّا ينفع، بدليل الحملة غير البريئة التي يشنّها خصوم "التيار" عليه على خلفيّة هذا الكلام، ولو كانت "مفتعلة" وبأبعادٍ انتخابيّة.

ولكن، هل يمكن توقّع ردٍ على الرئيس الإيرانيّ من جانب رئيس الجمهوريّة، الذي لاذ حتى الآن بالصمت؟ وهل يمكن أن يصل الأمر لحدّ "استدعاء" ​السفير الإيراني​ّ سواء من جانب الرئيس، أو بالحدّ الأدنى من جانب وزير الخارجية؟.

صحيحٌ أن ظاهرة "الاستدعاءات" ليست من الظواهر المتكرّرة لبنانيًا، رغم كثرة العوامل التي من شأنها الدفع لاستخدامها، خصوصًا مع المخالفات شبه اليوم لاتفاقية فيينا التي ترعى العمل الدبلوماسيّ، في ضوء تدخّل معظم السفراء في لبنان بالشؤون اللبنانية، إلا أنّ الفكرة واردة بالنسبة لكثيرين، خصوصًا أنّ الوزير باسيل سبق أن "جرّبها" العام الماضي مع ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان ​سيغريد كاغ​، التي استدعاها لتوضيح ما ورد في التقرير الصادر عن الأمين العام والذي تناول مسألة تجنيس النازحين في الدول المضيفة، وبالتالي فلا يفترض أن يكون هناك مانع من تكرار الأمر لتأكيد أنّ لبنان دولة مستقلّة.

إلا أنّ الأكيد أن لا الرئيس عون ولا الوزير باسيل سيقبل على نفسه أن يلجأ لخطوةٍ "أحادية" باستدعاء السفير الإيراني، ليس لوجود خشية لدى أيّ منهما من تداعيات مثل هذه الخطوة، خصوصًا على صعيد العلاقة مع "الحلفاء"، ولكن قبل ذلك، لأنّ أيّ ردّ على الرئيس الإيراني يفترض أن يقترن عمليًا بردّ على الآخرين، ولا سيما السعوديين، الذين يجد فريق واسع من اللبنانيين أنّهم يهينون الدولة اللبنانية برمّتها عندما يرحّبون بالعقوبات على فريقٍ لبنانيّ ممثّل في الحكومة الشرعيّة، ويتدخلون في شؤونه عندما ينعتون فريقًا بالميليشيا وبالارهاب، ويحضّون القوى المحسوبة عليهم على اتخاذ مواقف من هذا القبيل أو ذاك.

ويكفي بالنسبة للمعترضين على اتخاذ الرئيس لايّ قرار أنّ من "يزايدون" عليه اليوم في هذا الموضوع لم يعترضوا على السياسات الخليجية التي استهدفت فريقه السياسيّ، وصولاً لحدّ فرض عقوباتٍ على لبنان، ليس لأنّه اتخذ مواقف ضدّ ما يسمّى بـ"التضامن العربي"، بل لأنّه، وبكلّ بساطة، اختار "الحياد" و"النأي بالنفس"، فإذا بهذه الدول "تنتفض" ضدّ لبنان، وتجد في "المزايدين" خير مدافعين عنها، ذهبوا لحدّ مصادرة حرية الأحزاب السياسية بالمعارضة، بذريعة أنّ ذلك يعرّض علاقة لبنان بأشقائه للخطر.

أصل الداء...

يلخّص الموقف من كلام الرئيس الايراني الازدواجية التي يتعاطى بها السياسيون في لبنان مع كلّ شيء، وهو يشبه بذلك شكلاً ومضمونًا الاشكالية الحاصلة على خلفية رفض فريقٍ من اللبنانيين زيارة فريق آخر إلى سوريا، بوصفها "استفزازية"، في مقابل تشريعه الزيارات إلى دولٍ أخرى كالسعودية، ولو اتّخذت شكل "استدعاءات" كما حصل مؤخرًا.

لكن، وبمُعزلٍ عن كلّ هذه التفاصيل، يبقى أن أصل الداء يكمن فعليًا في هذه الازدواجية، إذ يكفي أن يكون هناك من يبرّر تدخل هذا أو ذاك، لتتحوّل الساحة اللبنانية لمُستباحة من قبل الجميع دون استثناء، تمامًا كما هي اليوم...