ربّما كان على رئيس حكومة البلاد المستقيل غيابيًا ​سعد الحريري​ أن يغيب حتى يعرف حقيقة محبّة ال​لبنان​يين تجاهه وتعاطفهم معه. ربّما كان على الشاب القريب البعيد الذي لا تُفسّر ملامحُ وجهه في كلّ صورةٍ ظهر فيها بعد “التغييب” أن يختبرَ قاعدته السنية لا بل الوطنية على هذه الشاكلة. نجح الشيخ سعد، استفزّ العقول المتنوّرة والقلوب المفطورة عليه حتى من دون التأكد من حقيقة وضعه.

لم تكفِ الصور الثلاث التي نشرها الرجل على حسابه مع سفير المملكة الجديد لدى لبنان والعاهل السعودي وولي عهد ​أبو ظبي​ لتبريد بعض الأفئدة المغتاظة مما تسمّيه “فخّ المملكة”. هو قلبُ رئيس الجمهورية أيضًا يتماهى مع قلوب العامة على اختلاف المشارب. الرجل الثمانيني الذي ما انفكّ ينظر الى الشاب الأربعيني على أنه بمثابة ابنه الآيل الى التمرُّس في الحكم والسُلطة ينتظر عودته. لا ينظر العماد ​ميشال عون​ الى سعد الحريري على أنه “ابنٌ ضالّ”، لا بل يرفض إلقاء اللائمة عليه رغم أنه وجّه الى العهد صفعةً قاسيةً وغير متوقعة. براغماتيًا يبدو سيّد القصر، يفهم الأسباب والدوافع والماهيات، يفككها خيرَ تفكيك ويؤثرُ الصمت كي لا يبدو عاتبًا أو لائمًا او حتى مستسلمًا. القناعة في القصر راسخة بأن ميشال عون لن يترك الأزمة تنهش الجسم المريض وبأن الأولوية اليوم لفهم الرواية الكاملة من الحريري نفسه ليُبنى على التسويغ مقتضاه.

لا يتوقع أحدٌ من الحريري الذي يعود ظرفيًا الى لبنان لتقديم استقالته خطيًا قبل أن يؤمّ وطنه الثاني (أو ربما الأول)، أن يروي الأمور على حقيقتها. لا يتوقّع أحدٌ من الحريري ذي الرعاية الأبوية السعودية أن يفصح عمّا يخنقه أو أن يشكو ظلمًا وذلًا تعرّض لهما وما كان في وارد الاقتراب منهما حتى، من خلال مغامرةٍ من هذا النوع. ولكن ما لن يقوله الحريري يومًا نقوله نحن من باب إنصافه أولًا وإعادة شيءٍ من الاعتبار الى البروتوكول الذي تمرّغ في وحول شكليّة الاستقالة العابرة للجغرافيا والرئاسة والعقول.

ما حقيقة ما حدث مع الرئيس الحريري ولو أن الوقت قد يبدو متأخرًا لإجلاء بعض المعلومات المتسرّبة من القصر الملكي؟

وفق معلوماتٍ خاصّة لـ”البلد” من مصادر سعوديّة قررت أن تروي ما حدث لجهةٍ لبنانية “صديقة”، وُجِّهت ليل الخميس دعوة الى الرئيس سعد الحريري بَلغته الى ​بيت الوسط​ ومفادُها أن العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يريد أن يلتقي به في قصر اليمامة الملكي. طبعًا اعتبرها الحريري دعوةً عاديّة تشبه سواها من الدعوات ولو أنها أتت متقاربة زمنيًا مع دعوةٍ أخيرة كان فيها توبيخٌ ولومٌ على ترك ​حزب الله​ يرفع سقف خطابه تجاه المملكة. يومها تعهّد الحريري بمعالجة الأمر وبالفعل توجّه الى السعودية مع ورقتين: أولاهما الدعوة الملكية، وثانيتهما تعهدٌ من ​إيران​ والرئيس نبيه برّي بخفض حدّة لغة الحزب تجاه السعودية. وصل الشيخ سعد فكانت في انتظاره ورقة ثالثة تسلّمها من أحد الأعوان في القصر وطلِب إليه التوجّه الى صالةٍ سفلية محايدة لقراءتها ثلاث مراتٍ والاستعداد لتلاوتها مباشرةً أمام الكاميرا. لم يستوعب الرجل مضمونها للوهلة الأولى وحتى إن المرات الثلاث بدت غير كافيةٍ له لحسن التلاوة بحيث بدا متعثرًا متلعثمًا مترددًا. في حينها فهم الحريري أن “صلاحيته” سعوديًا انتهت”. لم تتوقف الحكاية عند هذا الحدّ، فبحسب العارفين أنفسهم في المملكة والمتواصلين معهم من لبنان، قررت السعودية أن تمعن في “إحراج” الحريري من خلال إرساله بطائرةٍ سعودية خاصّة في جولةٍ خليجية استهلها في ​الإمارات​ ومردُّ ذلك وفق معلومات لـ”البلد” الى بلوغ ديونه التراكمية المُستحقة لأحد المصارف الإماراتية 450 مليون ​دولار​، وبالتالي كانت شكوى وغضب من ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الشيخ محمد بن زايد (المعروف بحزمه) نقلهما في وقتٍ سابق الى السعودية، فكان وجع الحريري وجعَين".

قد يكون رمي ذاك الكلام على “ذمّة الراوي” أفضل الصيغ التنصليّة لما حدث أو يحدث أو قد يحدث في أروقةٍ سعوديّة-خليجية لا تتسلل منها سوى ملامحِ وجه رجل يعي ابنُ السنوات الثلاث أنَ الحزنَ يستوطنها... لا بل يتآكلها. فهل سيجرؤ الحريري يومًا، من باب التنفيس، على الهمس في أذن أحدهم عن حقيقة ما حدث؟ أغلب الظن سيحتفظ الرجل بوجعه لنفسه...