عندما أطل رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ فجأة في خطاب الاستقالة من دون مقدمات ولا علم أقرب مستشاريه، إستخدم تعابير حادة تجاه ​إيران​ و​حزب الله​، كقطع الأيدي. لكنه لم يستعمل تلك المصطلحات في مقابلته التلفزيونية، لا بل استحضر موضوع النأي بالنفس عن الاحداث الاقليميّة، رغم دفاعه عن السعودية، وتحميله المسؤولية ل​طهران​ وحزب الله.

في الشكل أطل الحريري في المقابلة مربكاً في بداية الحلقة، كما بدا في حركاته ونظراته وتعابير وجهه وحاجته لشرب الماء، وعدم تقليم أظافره. ظهر متعباً وكأن النوم طار من عينيه منذ أيام الاستقالة.

في مضمون الحلقة تغيير واضح بين خطاب الاستقالة وحديث المقابلة، الى حد التراجع عن الاستقالة عمليًّا. فأقرن الخطوة المقبلة بشروط تعديل التسوية السياسية. هو برر أن تقديمه الاستقالة من الخارج خطوة غير دستورية. لكنه أبدى الرغبة بالعودة الى ​لبنان​ خلال أيام للحوار مع رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ حول شروط التسوية التي تقوم على ضرورة النأي بالنفس. ما يعني انه ترك الباب مفتوحا للعودة عن الاستقالة. الحريري أشار بكل وضوح لموضوع ​اليمن​ مرات عدّة، وكأن المطلوب من حزب الله اقناع ​ايران​ بالتنازل والتفاوض حول اليمن مع الرياض. لم يحسم خياراته النهائيّة خلال المقابلة وتركها قابلة للأخذ والرد بعكس اطلالة الاستقالة التي ظهر خطابه فيها غير قابل للتراجع، وصبّ غضبه يومها على الحزب وإيران، بينما تحول الأمر في الحلقة التلفزيونية الى نأي بالنفس عن الازمات الاقليمية.

فتح باب الحوار برعاية رئيس الجمهورية لكنه لم يذكر رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ لا ايجاباً ولا سلباً، ولم يشر الى حوار عين التينة، وهذا التجاهل اشارة قد تدلّ على انزعاج الرياض من بري الذي يتماهى مع حزب الله بكل السياسات. وربما يريد الحريري هنا ان يحمّل عون المسؤوليّة بعدما أقام معه تسوية سارية المفعول لكنها بحاجة الى تعديل في شروطها كما أوحى.

كل كلامه يؤكد ان ثمة تحول حصل في الساعات الماضية مهد له بيان ​كتلة المستقبل​ الثالث أمس الذي أشاد بالرياض وهاجم ايران.

هل الرضوخ السعودي هو نتيجة الضغط الأميركي على الرياض الذي عبّر عنه بيان البيت الابيض وكلام وزارة الخارجية؟ هناك ضغط أميركي ساهم بفرملة الخطوة السعوديّة. لكن ليس وحده انتج التحوّل في موقف السعوديين من خطوة فرض الاستقالة والإقامة الجبريّة على الحريري الى السماح له بتعديل الخطاب قبل العودة المرتقبة الى بيروت. ثمة مساعٍ مصرية واوروبية وأممية تلاقت مع الموقف اللبناني، الذي، تماسك في الايام الماضية وأدّت جميعها الى التراجع السعودي من سقف كلام وزير الدولة لشؤون الخليج ​ثامر السبهان​ الى النأي بالنفس الذي طرحه الحريري. لكن الرياض اشترطت على الحريري كما بدا في مضمون مواقفه أن يغيّر شروط التسوية إزاء حزب الله، ولاحقًا رص صفوف ​14 آذار​ في الانتخابات النيابية مجتمعة ضد قوى ٨ اذار.

ما يعني ان الجدل السياسي سيعود وفق اصطفافي 8 و14 اذار، بعدما ظنّ اللبنانيون أنّ التموضعات الماضية دُفنت. ها هي تعود من جديد.