شكّلت استقالة رئيس الوزراء اللبناني ​سعد الحريري​ من السعودية والظروف التي رافقتها والتهديدات السعودية للبنان، سابقة في تاريخ العلاقات الدولية. وتلقى لبنان الرسمي تقارير ومعلومات أفاد بها مرافقوه العائدون الى بيروت بدونه، تؤكد أن الرئيس الحريري وعائلته قيد الاقامة الجبرية في السعودية، وأنه غير حرّ في قراراته، الأمر الذي دعا ​الرئاسة اللبنانية​ الى طلب توضيحات من السعودية حول مصيره وظروف تواجده، ودعوة للسعودية لإطلاق سراحه.

وبالرغم من اللهجة الهادئة عدم التصعيدية التي أظهرها خلال مقابلته التلفزيونية من السعودية، والتي بدت الكلمة السحرية فيها "النأي بالنفس" وتبرير الاستقالة بأنها بهدف إحداث "صدمة ايجابية"، ووعد بالعودة الى لبنان، إلا أن المعركة لاستعادته ما زالت قائمة، ولا يُعرف إن كانت السعودية ستسمح له بالعودة في وقت قريب.

ولقد رفض رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ​ميشال عون​ استقالة رئيس الوزراء وأقرنها بشرط عودته الى بيروت وتقديمها بشكل شخصي كما ينص عليه الدستور اللبناني، وهذا يعني أن الحريري ما زال - لغاية اليوم- رئيسًا للحكومة اللبنانية، وهو يتمتع بكافة الحقوق والحصانات التي يمنحها له القانون الدولي في هذا الإطار.

والحصانة هي نظام دولي تقليدي، يتم من خلاله تحصين أشخاص عاملين باسم الدولة من المقاضاة أمام محاكم أجنبية، كما تعني الحصانة الشخصية عدم جواز التعرض لشخصه أو محل إقامته أو مواكبه أثناء وجوده في الخارج، كما لا يجوز بأي شكل من الاشكال إلقاء القبض عليه، أو تفتيشه، أو حجز حريته أو فرض الاقامة الجبرية عليه.

على صعيد القانون الدولي قامت اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية بتحديد الأطر القانونية لحصانة ​البعثات الدبلوماسية​ حصرًا، ولغاية تاريخه ليس هناك أي اتفاقية دولية تنظّم موضوع الحصانة الممنوحة لحكام الدولة بشكل مفصّل، بل ما زالت الحصانة الى اليوم تعتبر ثابتة من ثوابت القانون الدولي العرفي.

ولقد تطورت الحصانة الممنوحة للدولة ذات السيادة بتطور مضامين العلاقات الدولية، إذ أن تلك الحصانة تستمد تاريخها من القرنين السابع عشر والثامن عشر، حين كان الملك والدولة واحد. وكان دخول ملك الى اقليم ملك آخر بمعرفته وإذنه يعني - وإن لم يتضمن نصًا صريحًا- منع القبض عليه أو المساس بكرامته أو خضوعه لولاية الدولة الاخرى عليه. وإنطلاقًا من هذا العرف الممتد عبر الزمن، دخلت الحصانة لرؤساء الدول ومن يمثلون الدولة الى القانون الدولي، باعتبارها قواعد مجاملة وصداقة في العلاقات الدولية.

قانونيًا، يتمتع رؤساء الدول ورؤساء الحكومات ووزراء الخارجية والمسؤولون الرفيعو المستوى، بحصانات قضائية جنائية في القانون الدولي؛ أي أنهم يتمتعون بالحصانة الشخصية من الولاية القضائية الجنائية الأجنبية خلال توليهم لمناصبهم. وقد استقر القانون الدولي على أن هذه الحصانات الممنوحة لرؤساء الدول تبقى سارية إلا في حال اتهامهم بارتكاب جرائم دولية؛ كالجرائم ضد الانسانية، جرائم حرب، الابادة أو انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، حيث يمكن إحالتهم الى محاكم دولية. وقد حدّ الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية (2002) من قدرة الدول على ممارسة ولاية قضائية جنائية على مسؤول في الحكم ما زال متمتعًا بحصانة دولته حتى لو تمّ ارتهامه بارتكاب جرائم دولية، وذلك في قضية الكونغو ضد بلجيكا، حيث اعتبرت المحكمة أن مذكرة الاعتقال التي أصدرتها بلجيكا بحق وزير خارجية الكونغو لاتهامه بجرائم دولية هو غير قانوني باعتباره متمتعًا بالحصانة.

انطلاقًا مما سبق، ومهما كانت الحجة التي يتذرع بها السعوديون للحدّ من حركة رئيس الوزراء اللبناني، سواء كانت لمقاضاته جنائيًا داخل السعودية أو لاستيائهم من التصرفات التي قام بها بمعرض ممارسته لوظيفته العامة بصفته رئيسًا لوزراء لبنان، فإن ما قاموا به يعدّ تعديًا واضحًا على السيادة اللبنانية وخرقًا لكل المواثيق والأعراف الدولية.

و عليه، هل هناك من وسائل قانونية يستطيع لبنان أن يتصرف من خلالها لإستعادة الحريري؟

- محكمة العدل الدولية: بموجب القانون الدولي، لا تستطيع الدول التقاضي في هذه الامور إلا أمام محكمة العدل الدولية التي يحتاج التقاضي أمامها الى موافقة الدولتين السيدتين، وهذا لن يكون متوفرًا لأن السعودية لن تقبل بمبدأ التقاضي. مع العلم أن القضايا المرفوعة امام تلك المحكمة تحتاج الى سنوات طويلة لصدور الحكم، ولا يملك اللبنانيون ترف الانتظار باعتبار أن حياة الرجل وعائلته ستكون على المحك.

- مجلس الأمن: يستطيع لبنان أن يتقدم بشكوى ل​مجلس الأمن الدولي​ ويتهم السعودية باحتجاز رئيس الوزراء، ولكن أمام هذا الأمر صعوبات تتعلق بموازين القوى في ​مجلس الامن​، ومدى رغبة الدول الكبرى في تحدي السعودية كدولة غنية مقابل لبنان الصغير. كما قد لا يستطيع لبنان أن يقدم الاثباتات القانونية التي تؤكد الاحتجاز القهري للحريري.

كل ما يمكن للبنان أن يحصّله في مجلس الأمن هو بيان يشدد على أهمية دور الحريري وضرورة احترام سيادة لبنان وعمل المؤسسات اللبنانية، أي بيان سياسي قد لا يجبر السعودية على اطلاق سراح الحريري، ولكنه يشكّل نوعًا من الضغط السياسي عليها.

إذًا، تبدو الوسائل القانونية غير قادرة على حلّ معضلة الحريري، لذا فإن الضغوط السياسية الدولية وحدها هي التي يمكن لها أن تدفع السعوديين الى الامتثال واحترام سيادة لبنان، واحترام حصانة رئيس وزرائه، ولا أحد سوى الولايات المتحدة الأميركية ستكون القادرة على ممارسة هذا الضغوط بفعالية، لما لها من نفوذ على الحكام السعوديين، فهل تفعلها؟.