قد يقع هذا النص أوّلاً، في ملعب لبناني وقل في"ساحة" مقلقة لشعبها ولغيرها من ناحية كما يقع، من ناحية ثانية، فيملاعب دموية هائلةلمشرق العرب تدفع ببقايا جحافل التهديم المحليّة والمستوردة نحو الباب الشرقي لمغرب العرب والمسلمين، وهو نص قد يقع أيضاً في النظرةالنقدية الى "عظمة"الغرب والشرق غير العربيين في تشابههما أوتنافسهما على تبادل الأسراروالنفوذوتكديس الإنتاج وخصوصاً أجيال الأسلحة الفتّاكة القادرة على تشريعالأبواب على المخاطر مع أنّ الباب الوحيد الذي لم يرد العالم غلقه بعد هو باب ​فلسطين​ المفتوح، كما يبدو، نحو الأبد.ويقع هذا النص، في حقائب الحروب المفتوحة والمتنقّلة بنيرانها وأزماتها من بلدٍ عربي إلى آخر.

كيف؟

في النظرة الى الدول الغنيّة سواء أكانت في الشرق أو في الغرب، يمكننا أن نسجّل نوعاً من تراجع الإنبهار الذي حظيت به دول الإنتاج بمعنى الإبداع والتقدّم وتبوخ فكرة الإستهلاك أيضاً بمعنى التخلّف والتسخير التي تحكّمت بتصنيف المجتمعات البشرية. تشابهت المجتمعات وتقاربت عمرانياً وتداخلاً لكنهالمتتوحّد خلال ألفيتين.يعود السبب الى بروز التواصل السريع وطغيانه بين البشربمايجعل المجتمعات الإنسانية تتوحّد في الأسواق والعمرانوالأشكال والأدوات والحاجات والطموحات والهموم، لكنّها للأسف تبقى قابلة للإقتتال ، وكأنّها الضلع الضعيف في مثلّثٍ غير متساوي الأضلاعيستحيل عليه تحقيق العدالة. تظهر تلك الزاوية المضيئة في المدن المعاصرة موطناً للإستغلال والغموض والإرباك والإنصياع وتحقيق الثروات والمكاسب والأرباح بما يقصي المحشورين فيها عن فلسفة الإنتاج بهدف المزيد من الإنتاج وتحقيق قوة الدول والشركات الدولية .

في ضوء هذه الملاحظة،يمكنني حصر تعب البشريّة ومنجزاتها، في دائرتين تبرز عبرهما مجالات التمايزوالنتؤآت بين الأمم:

الإبداع والإيمان:لا يمكن محو الفكرة التي تنظر الى النشاط الإبداعي والإبتكاري وإستمراريته بكونها تحقيقاً لحركة الإبداع الأولى التي تأسّست عليها الأديان، بإعتبارها منحة من الخالق للعقل وبالعقل تقوى وتنشط روحيّاً فتقرب من الله، أو تتراجع وتخفّ فتبقى بحاجةٍ، تحقيقاً لتفوّقها وتمايزها ، الى إظهارتخلّف غيرها أو تبيان التفوّق عليه وتجاوزه.قد يسكن الإنسان حس المحافظة على بقائه وقوّته وتميّزه عند عقد المقارنات بين قدرته وتسلّطهعلىالكائنات الأخرى. لكن ماذا نفعل عندما تتظهّر سلطة الإنسان المعاصر وكأنّه لم يخرج بل يعود إلى كائنه الأوّل الوحشي عبر تعميم فكرة ​الإرهاب​ وحصرها في نواحٍمظلمةمن ​الشرق الأوسط​؟

دورة الحضارات: تستمرّ المنجزات الحضارية في تراكمها عبر الأنشطة الإبداعيّة-الإنتاجيّة من فردٍ الى آخر، ومن أمّةٍ الى أخرى ومن كوكبٍ الى آخر كما هو حاصل عبر تدفّق الأزمنة حيث تنمو حضارات وتذوي أخر. بهذا المعنى، نعتبر النشاط والإجتهاد البشري نوعاً من الأحجار المشقوعة شهادةً على قيام الحضارات والتفاخر بها وإندثارها أحياناً الى ما لا يتجاوز سطرين في القواميس والموسوعات والأمثلة كثيرة دوّارة من ركام بلاد ما بين النهرين الى الإغريق و​الرومان​ ثمّ بلاد ​الربيع العربي​ الذي لم يتعب من فتح الجروح في جسد العرب. هذه مسألة جوهرية، قد يصعب الإحاطة بها بشكلٍ عملي، إلاّ إذا نظرنا، الى تاريخنا الواسع مثل لمحة بصرٍ في تثاقل الزمان . وتعويضاً عن المصائب بمكنني القول أنّ عمر الإنسان وفقاًللتاريخ المكتوب الأوّل يعود الى الألف الرابع ق.م. وما سبقه تقديرات ومجاهل ووعورة في العرفة.

يعمّق هذا النص الغموض في مساحة فهم التكافؤ والتفاعل بين دائرتي النشاط المذكورتين حيث يقوى الإلتباس بين قدرة العقل على التفكير والتغيير وتسليم أصحابه بما هو موجود ومعروض للأسواق والأذواق. ونذكر التفاعل الحضاري هنا ليس بمفهومه التقني ومساراته الإبداعية وحسب، وإنّما أيضاً، في مفهومه الفج الذي لم يتخلّص بعد من البحث عن الحركة الأولى أو خطوة آدم الأولى التي إرتجّت فوق الأرض بالمعنى الأسطوري. تهدف الحركة ، بهذا المنظار، الى إيقاظ طاقة التواصل البشري القوي والضعيف مع الخارج في دنيا لا خارج فيها أو داخل ولا فضل لواحدٍ على آخر. ولو ذهبنا الى أعمق من ذلك، لقلنا أنّ الخالق هو النبع الطبيعي للإنتاج الأعظم، والإنسان هو حفنة من تراب مؤجّل دفنهامستهلكة وهالكة أبداًبوصفها النهرالمتدفّق أبداً من النبع.

ونلحظ داخل هاتين الدائرتين، وحول شكلي النشاط "الإبداعي"( على إعتبار أنّنا قد نصادف نظريات وأفكاراً تعتبر التلقّي والإستتباع والإستهلاك المادي الأعمى، وجهاً خادعاً آخر من وجوه الإبداع) أن حركات تغيير و"ثورات" قامت وستقومالى درجة صار من العسير حصر المصطلحات التي أقلقت المجتمع البشري مثال التنمية والتبعيّة والتخلّف والتقدّم والجدّة والإبتكار والخلق والإبداعوالمعاصرة والحداثة والتحديث وما بعدهما بما فصّل أقيسة العالم والشعوب الى أوّلٍ وثانٍ وثالث ورابع..الخ. ليعود التقسيم نحو مرحلةٍ من التداخلات سقط عبرها الكثير من مساحات التمايز بين الشعوب. ستبقى السماء برمزيتها هي المنتج الأكبر والأرض هي المتلقّي أو المستهلك والهالك الأكبر. هذا ما يعترف به الفكر الفلسفي الذي سبق الأديان من سقراط وأرسطو وإفلاطون الى هيغل وماركس ونيتشه وفرويد والى مركوز وهيوم وكانت وفوكو...الى أسماء دمغت العقل العالمي بحضورها فشلت في محو أسطر التباين والإختلاف بين السماء والأرض من ناحية أو بين إنسانٍ وآخرلتلاقيهم ويجمعهم في ما يتجاوز التاريخ.

تقتضي إشكاليات هذه العلاقة بين الإنتاج والإستهلاك التوسّع في إستيعاب مفهوم الحضارة كونه مدلول تموّج بين علوم إزدهارالمجتمعات واللاهوت مروراً بالفلسفة، وخصوصاً لفهم الحضارات في تعدّدها ووحدتها وتلاقحها عند الإستغراق في ما كتب عن بلاد ما بين النهرين ومصر واليونان التي توضع دولها المعاصرة وتراثها وكنوزها ومخطوطاتها وشعوبها في موقع السقوط، وصولاً الى فهم فلسفة الحضارة التقنية والمعلوماتية المعاصرة التي تبدو وكأنّها لم تبلغ أوج قوّتها ونهضتها حتّى بالنسبة للأجيال التي تعاصرها فتعتبرالحضارة لعبة تجعل الإنسان يلعب بقشرة دماغه ويفرغ محتواها ​الرمادي​ المشرقبحثاً عن أفكار وكشوفات تعيد طرح مستقبل الإنسانية وصراعاتها وتفاعلها وتناسلها بما يوصلها الى الخراب الكوني الكبير الذي يجعل العالم لا قريةً صغيرة عالمية بل مدينة متوحّشة تأكل نفسها.

هل هناك من حلّ؟

قفل الباب الفلسطيني الذي يعمّم في أرجاء المدينة العالمية.