كل ال​لبنان​يين كانوا يرصدون خطوات رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ بعد عودته الى بيروت. كانوا يريدون التأكد من صحة الكلام والشائعات التي رافقت غيبته "القسرية". لم تتأخر الأجوبة. جاءت في الشكل والجوهر تدل على صحة الخيارات التي انتهجها رئيسا الجمهورية ​ميشال عون​ والمجلس النيابي ​نبيه بري​، ورصانة تعاطي "​حزب الله​" مع الحدث.

المصافحات الحارة بين كل من عون والحريري، وبري والحريري في الاحتفال بعيد الاستقلال كانت كافية للدلالة عن عمق امتنان رئيس الحكومة لرئيسي الجمهورية والمجلس. حرارة لم يستطع اخفاءها الرؤساء الثلاثة في العناق الذي تبادلوه بأول لقاء بعد عودة الحريري من ​السعودية​. ثم جاء المشوار الثنائي بين بري والحريري من وسط بيروت الى القصر الجمهوري في بعبدا في سيارة واحدة قادها "الشيخ سعد" والى جانبه "الاستاذ نبيه". تبعها اللقاء الثلاثي ثم الثنائي بين رئيسي الجمهورية والحكومة في بعبدا. جاء بعدها بيان الحريري مكمّلا للاشارات الايجابية، وليقطع الشك باليقين أن رئيس الحكومة تراجع عن استقالته التي لم تكن عمليا بمحض ارادته. فكرة التريث هي وليدة فكرة حكيمة دارت بين الرؤساء للخروج من الأزمة من دون احراج أحد، ولا استفزاز السعودية واظهارها بموقع "فشل الرهان".

مضمون البيان دلّ على اشارات بالجملة: العاطفة النبيلة التي أظهرها الحريري لرئيسي الجمهورية والمجلس، واختياره مصطلحات سياسية موزونة ودبلوماسية، والتركيز على النأي بالنفس وحسن العلاقات مع ​العالم العربي​. تلك عناوين جوهرية لا يشاكسها أي فريق في لبنان، والدليل ما أورده الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير من احتواء للأزمة ومرونة سياسية ازاء ملفات عدة. كل ذلك يعني أننا ذاهبون الى حوار يرعاه رئيس الجمهورية في بعبدا، وهذا طرح وفاقي لبناني كان يعارضه فقط رئيس حزب "القوات" ​سمير جعجع​ عندما قاطع ​طاولة الحوار​ سابقا".

ما لم يقله الحريري في بعبدا قاله أمام الجماهير التي احتشدت امام منزله في وسط بيروت، هو ركّز على الوفاء. فمن قصد الحريري؟ هل قصد وفاء عون وبري وقوى في "8 اذار" أعلنت عن التمسك به رئيسا للحكومة ولم تقبل استقالته، لا بل مارست ضغوطا دولية لعودته؟ أم قصد وفاء قيادات في تيار "المستقبل" رفضت الاذعان ومطلب تنحيته؟ أم كان الحريري يشير في كلامه الى قلة وفاء حلفائه في "14 اذار" المصنّفين في خانة الصقور؟.

بدا من اشارات الحريري في لقاءاته ومصافحاته وخطاباته أنه قصد كل ذلك. لم يذكر أبدا رئيس حزب "القوات" سمير جعجع ولا أي صقر من صقور "14 اذار" في كلامه لا سلبا ولا ايجابا، وهذا التجاهل بحد ذاته موقف سلبي، خصوصا الذين هلّلوا لاستقالة الحريري وروّجوا لبيانه الأول الذي ألقاه من الرياض. هنا يبدو حجم التباعد بين الحريري والصقور الذين تفرّجوا عن بعد لتطورات لم يحسبوا لمسارها حسابا. هم انقسموا فريقين منذ البداية: واحد راهن على نهاية سياسية للحريري بعد التلويح بورقة شقيقه بهاء كبديل عنه، والثاني راهن على تغيير جذري في سياسة الحريري للابتعاد عن التسوية التي جمعته مع عون. الرهانان سقطا. غابت تصريحات الوزير السعودي ​ثامر السبهان​ التصعيدية، عاد الحريري الى لبنان من دون أن يتغير "الشيخ سعد"، رغم التوجه لتعديل الخطاب السياسي اللبناني الداخلي والاتجاه لفرض اعلان القوى جميعها النأي بالنفس. هنا يكون لبنان على مساحة الانتظار لحصول تسويات اقليمية يحاول الفرنسيون رعايتها بين ​ايران​ والسعودية بموافقة مبدئية أميركية.

تنطلق مسيرة الحوار السياسي، لكن كل المؤشرات التي حصلت توحي بأن محطة الاختبار الاولى ستكون الانتخابات النيابية. كيف ستكون التحالفات؟ حتى الساعة لا يبدو أن الحريري سيتحالف مع جعجع وصقور "14 اذار" انتخابيا، لا بل جاءت الاستقالة الشكلية القسريّة لتعمّق التباعد بينهم. خطاب الحريري في القصر الجمهوري يوحي أن تياره الازرق سيكون حليفا للتيارين البرتقالي والأخضر. لأن ما حصل شكّل معمودية سياسية قربّت المسافات بين بعبدا وعين التينة وبيت الوسط. الفارق هذه المرة أن الحريري جدّد زعامته ونال ثقة الشارع اللبناني وخصوصا السنّي الذي تعاطف مع "الشيخ سعد"، كما ظهر في المسيرة التضامنية أمام بيت الوسط، التي دحضت الشائعات عن تفوق تيارات سنية أخرى عليه، كحالة الوزير السابق ​اشرف ريفي​ التي تضررت الى حد الاضمحلال ازاء ما حصل مع الحريري. رغم ذلك، كل بتّ سياسي سابق لأوانه بشأن التحالفات، لكن المحسوم أن عاطفة الحريري وعقله رسخا انحيازه الى جانب عون وبري، وقد يقوداه أيضا الى التحالف مع حلفائهما.