في خضَمّ الكلام الكثير والمتواتر عن «أزمة عميقة» تسود بين «القوات ال​لبنان​ية» و«التيار الوطني الحر»، يدور كلام مماثل عن أزمة مماثلة بينها وبين تيار «المستقبل» خرجت إلى العلن بعد استقالة الرئيس ​سعد الحريري​ بعدما كان مسكوتاً عنها منذ أسابيع رغم اللقاءات والاتصالات التي حصلت بين الحريري والدكتور ​سمير جعجع​. ولكن بغضّ النظر عن عمق هذه الأزمة من عدمه، فإنّ لدى «القوات» قراءتها للاستقالة بأسبابها وأهدافها والأبعاد.

عندما لوّحت «القوات اللبنانية» بالاستقالة من الحكومة، تقول مصادرها، إنّما أرادت من هذا التلويح «إطلاقَ صرخة تحذيرية تجنّباً لوصول البلاد إلى المأزق الذي وصَلت إليه، خصوصاً أنّها كانت قد وضَعت تلويحها بهذه الاستقالة تحت عنوانين: الأوّل، هو تجاوزات «حزب الله» للتسوية السياسية، والثاني عدم التقيّدِ بالدستور والقوانين المرعيّة من أجلِ مكافحة الفساد المتأصّل في ​الدولة اللبنانية​.

والمشكلة الأساسية، تضيف هذه المصادر، كانت «أنّ هناك استسهالاً لدى «حزب الله» وقوى سياسية أخرى للتوازنات الإقليمية وسوء قراءة سياسية للتحوّلات التي بدأت مع الإدارة الأميركية الجديدة وصولاً إلى تسلُّمِ الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد في المملكة العربية ​السعودية​، وبالتالي بين التجاوزات في الداخل والتحوّلات في الخارج توَلّدَ اقتناع لدى ​الرياض​ بأنّ هناك محاولةً جدّية لضمِّ لبنان إلى «محور الممانعة» لم يعُد معها في إمكان المملكة التغاضي عن دور «حزب الله» الاقليمي. ونتيجةً لكلّ هذا المشهد جاءت استقالة الرئيس سعد الحريري من الرياض لتؤكّد وجود مشكلة لبنانية فعلية تستدعي مقاربةً مختلفة لبَلورةِ تسوية سياسية جديدة».

وعلى رغم المحاولات الحثيثة لحرفِ الأنظار عن مضمون استقالة الحريري، تقول المصادر «القواتية» إنّ إطلالته من قصر بعبدا في عيد الاستقلال «جاءت لتؤكّد ما كانت قد ذهبَت «القوات» إليه منذ اللحظة الأولى وهو أنّ هناك مشكلة فعلية يجب مقاربتُها بجدّية بدلاً من سياسة الهروب إلى الامام،

خصوصاً أنّ الحريري شدّد على ثلاثة عناوين أساسية:

• الأوّل، التزام «اتّفاق الطائف»، والمقصود هنا الشِقّ السيادي منه الذي لم يُطبَّق منذ اللحظة الأولى لإقراره.

• الثاني، انسحاب «حزب الله» من أزمات المنطقة، حيث إنّ غضّ النظرِ مع مرحلة أو حقبة معيّنة لم يعُد ممكناً في هذه اللحظة.

• الثالث، وقفُ استخدامِ لبنان منصّةً لاستهداف ​الدول العربية​ عموماً، والخليجية خصوصاً، فالانتقاد السياسي مشروع ولكنّ التطاولَ والتهجّم يُسيء الى علاقات لبنان الخارجيّة وإلى مصالحه في هذه الدول ومعها.

وفي هذا الوقت فَعلت استقالة الحريري فِعلها، بحيث إنّه حصَل استنفارٌ دولي وإقليمي في محاولةٍ لمنعِ تفاقُمِ الأوضاع ودخول لبنان في أزمة مفتوحة تطيح استقرارَه وتضرِب ثلاثة مرتكزات دوليّة:

• أوّلاً، خطورة نشوبِ حرب لبنانية ـ إسرائيلية.

• ثانياً، خطورة أن تنعكس التطوّرات اللبنانية على مسارات التسوية السورية فتطيح كلّ هذه المسارات وتؤدّي إلى استعار الحرب في ​سوريا​ مجدّداً وبشِدّة.

• ثالثاً، تعقيد ملفّ النازحين وتفاقم خشية المجتمع الدولي من أن يؤدي عدم الاستقرار في لبنان إلى هجرة هؤلاء النازحين في اتّجاه أوروبا والغرب عموماً.

وفي ضوء هذه المرتكزات الثلاثة شهدَ لبنان ولا يزال حركةً ديبلوماسية غير مسبوقة إلّا في محطتين، الأولى تمثّلت بـ»اتّفاق الطائف»، والثانية كانت بين عامي 2004 و2006.

والهدف من هذه الحركة الديبلوماسية هو بَلورة تسويةٍ سياسية جديدة تأخذ في الاعتبار الأسبابَ التي أدّت الى استقالة الحريري وبالتالي انتزاع تنازلات جدّية من ​طهران​ واستطراداً «حزب الله»، تفضي الى وضعِ آليات لانسحاب «الحزب» من أزمات المنطقة ووضعِ سلاحِه على طاولة حوار جدّية تفضي ضمن فترةٍ معقولة الى تسليمه للدولة اللبنانية.

وفي رأي هذه المصادر «القواتية» أنّ تصريح قائد ​الحرس الثوري الايراني​ محمد علي الجعفري الذي اعتَبر فيه أنّ سلاح «حزب الله» غيرُ قابل للتفاوض «لم يكن وليدَ المصادفة، بل كان نتيجة الضغوط الدولية التي بدأت تثمر ضغطاً على طهران من أجلِ التفاوض حول موضوع سلاح «حزب الله» ودوره، خصوصاً أنّها كانت طوال الفترة الماضية تمارس سياسة التهرّب بحجّة أنّها غير معنية بالحزب وأنّ أيّ نقاش حول سلاحه يفترض أن يتمّ معه».

وبالتوازن مع الحركة الديبلوماسية النشِطة، تضيف المصادر «القواتية، «لم تتوقّف محاولات «حزب الله» لحرف النقاش عن جوهر القضية المثارة في سعيٍ إلى ضربِ «المومنتوم» الدولي ـ الاقليمي- المحلي المتصل باستقالة الحريري، وإعادة عقارب الساعة الى ما قبل 4 تشرين الثاني الجاري من دون تقديم ايّ تنازلات سياسية جوهرية، وإنّما الاكتفاء بمواقف لفظية وتهدئة شكلية بغية تقطيع هذا «المومنتوم» وإعادة القديم الى قِدمه».

وإذا كان ما يقوم به «حزب الله» مفهوماً، حسب مصادر «القوات»، فإنّ المؤسف في نظر « القوات» هو «أنّ بعض قيادات تيار «المستقبل» استغلّت غيابَ الحريري عن الساحة اللبنانية للمساهمة في حرفِ النقاش أيضاً عن الأسباب الموجبة لاستقالته، ونَقلِه إلى إستهداف «القوات اللبنانية» تحت عناوين فارغة وتضليلية، وكأنّ هذه القيادات «المستقبليّة» لا تُدرِك خطورةَ ما تقوم به حيث إنّ نجاح «الحزب» في الفصلِ بين «القوات» و«المستقبل» يُمكّنه من ضربِ المشروع السيادي واستفرادهما تمهيداً للإطباق على القرار السياسي اللبناني».

وقد رأت «القوات» في تريّثِ الحريري في الاستقالة «مناسبةً لإطلاق حوار سياسي لبناني بغطاء دولي ـ إقليمي بغية تحقيق العناوين التي أثارها الحريري في بيان استقالته من الرياض، لأنّ تأكيد الاستقالة كان سيأخذ الأمورَ إلى نقاش يتصل بالتكليف والتأليف، فيما التركيز يجب ان يكون على تلك العناوين، إذ ليس مهمّاً إدارة الحوار من موقف «الرئيس المكلّف» أو «الرئيس المتريّث»، بل الأساس هو إبقاء التركيز منصَبّاً على جوهر الاستقالة وأسبابها.

وتَعتبر «القوات» في هذا السياق أنّ لبنان أمام فرصة تاريخية ذهبية نتيجة مجموعةِ عوامل دولية وإقليمية متشابكة ومتقاطعة للدفع بمشروع الدولة في لبنان قدماً، إذ قد تكون المرّةَ الأولى التي يُعرَّب فيها سلاح «حزب الله» ويدوّل بهذا الشكل، ما يقدّم فرصةً حقيقية للوصول الى معالجات حقيقية لأسباب الأزمة اللبنانية الفعلية تمهيداً لقيام دولة فعلية تنأى بنفسِها عن أزمات المنطقة ومحاورها».

وتَختم مصادر القوات متسائلةً: «هل ستنجح هذه المحاولة في إعادة إحياء «اتفاق الطائف» وتطبيقه نصّاً وروحاً؟ أم سينجح «حزب الله» وحلفاؤه في تفويتِ هذه الفرصة للمرّة الثالثة على التوالي بعد الانقلاب على «الطائف» عام 1990، ومن ثمّ الانقلاب على «انتفاضة الاستقلال» عام 2005؟».