إرفعوا أيدكم إلى العلاء، فرفعنا أيدينا إلى العلاء. لوّحوا بأيديكم يميناً ويساراً، فَلوَّحنا بأيدينا. هزّوا خُصوركم، ففعلنا. صفّقوا لملِك المجد، فصفّقنا. إرفعوا الإشارات التي تحملونها واهتفوا بصوتٍ عالٍ، فلَوَّحنا وهتفنا بأعلى صوتنا… وماذا بعد!.

الحقّ يُقال بأنّ ما آلت إليه الأمور لناحية التفلّت الليتورجيّ في ​الكنيسة المارونية​، قد بلغ حدّاً بات فيه من الصعوبة بمكان، كبحة وترشيده ليستقيم ويتأطّر في إطار الشخصيّة المارونية المتجذّرة في التقليد الديني الشرقي، ويستند عليها في سعيه إلى الحداثة. وبإمكاننا، وللأسف الشديد، اختصار المشهد الليتورجيّ الحالي بعبارة "كُلٌّ يُغني على ليلاه". ويبقى أن نعرف أيُّ ليلى هي ليلانا وأيّها المثالية التي تُشبهنا وتناسبنا في ظِلِّ مجموعة التناقضات التي تفتك بالتقليد المقدّس وتقتلعه من جذوره وتسبدله ببعض الألعاب والكلمات الجوفاء ذات المَظْهَر دون المَخْبَر.

نعم، مجموعة ألعابٍ وكلمات جوفاء! ولِما لا والكنيسة، بِظَنّ البعض، بحاجة إلى أن تواكب العصر فتجذب أبناءها وبناتها بلُغة وأدوات الزمن الحاضر بحيث يضمّ الإحتفال الليتورجيّ كالقداس والصلوات الطقسية والأسرار، مواد وأدوات للترفيه عن النفس والتسلية كالمجسّمات والحركات والأضواء المُشابهة لتلك التي في الملاهي الليليّة، والديكور المُشابه لذلك المعمول به في المسارح، إن من حيثُ الحجم وإن من حيث الكلفة، فَمن شأن ذلك أن يُبعِد عن "المُشاهدين" الغارقين والضائعين في دياسبورا اللامبالاة الدينيّة، عبء الضجر المتأتي من المُشاهدة الكلاسيكية نفسها، التي يُعادُ بثُّ حلقاتها على المُشاهدين في كلّ أحدٍ وعيدٍما يُثقل قلوبهم بالهمّ والغمّ، فيخرجوا كما دخلوا، فارغين من الألوهة.

ولكن أين الصّحةُ الروحيّة في ليتورجيّا اللَّعِب كما أُحبُّ بأن أدعوها؟!.

رُبّما يجدُ القارىء الجواب في الخبر الذي سأسوقه إليه، فقد كنتُ شاهداً في سنواتي الكهنوتية الأولى على فَورةٍ روحيّة شهدتها إحدى الرعايا بسبب ليتورجيّا اللَّعِب، ما أدى إلى ازدياد روّاد الكنيسة أيّام الآحاد والأعياد، وسبّب إحراجاً للرعايا المُجاورة ونوعاً من فقدان الثقة بالذات عند بعض الكهنة الذين لم يُتقنوا لُغَة وأسلوب اللَّعِب.

وحدث في يومٍ من الأيّام أن بدَّل المطران الخوري لسبب ما، فتكشّفت حقيقةُ الإيمان المزعوم في الرعية بسرعة صاروخيّة: راح معاون الخوري فوزّع البدلات الكهنوتية الطقسية على جدران الكنيسة بإيعازٍ من الخوري نفسه كوسيلة ضغط، وهّيج الشعب فسبّوا المطران والكهنة، وراحوا يُشاغبون ويصيحون ويرعدون ويزبدون ويتهدَّدون ويتوعّدون، مُسيئين بذلك إلى حُرمة الكنيسة وقُدسيتها، حتى وصل بهم الأمر إلى التعرّض بالشتم والضرب لكاهن كان يتوسّط بين الرعية والمطران.

حَدَثَ هذا كلّه في هذه الرعية التي كانت تُعتبر بنظر الجميع نموذجية، فإذا بِها تنهار في لحظةٍ واحدة. لِماذا؟ لأنَّ ليتورجية اللَّعِب أبقت الناس على مستوى السطح، وعند أوّل إشراقة شمس احترقوا لأنَّ إيمانهم لَم يكن له أصل فجفَّ(متى136-7).

إنَّ ليتورجيّا اللَّعِب مُرتبطة باللُّعَب، فإن زالت اللُّعَب زالَ اللَّعِب وزالت معها "روحانيتها"، لأنَّها في الأصل ليست روحانية، بل مُهدّىء تحت إسم "روحي"، يُهدّىء الناس إلى حين تُشرق الشمس الأولى، فيَبين الخيط الأبيض من الأسود.

إلى متى تستمرّ ليتورجيّا اللَّعِب تهبط بعبادتنا إلى الحضيض وتقذف بِنا من العُمق إلى السَّطح، فتُسَطّح لاهوتنا وروحانيتنا وكلماتنا وتعابيرنا المقدّسة؟! العليم وحده يعلَم، ولعَل بين علماء الكنيسة عَليم!.