لم يعُد هناك كثيرٌ من الخفايا في اللعبة، منذ «استقالة» الرئيس ​سعد الحريري​ حتى «التريُّث»... فالعودة المنتظَرة إلى ممارسة المسؤولية. بالنسبة إلى المتابعين، تتسارع المفاجآت والصدمات والانقلابات الإقليمية لتوضح الصورة: هذا ما جرى منذ 4 تشرين الأول 2017، وهذا هو المتوقّع... وهذه حقيقة «إنهزام» الحريري أو «انتصاره» في المواجهة الأخيرة!

مرّة أخرى، يتأكّد أنّ عودة الحريري من ​السعودية​ جاءت ضمن تسوية متكاملة حظيت بموافقة السعوديين، وساهم الفرنسيون في إخراجها مقابل ثمن سيحصلون عليه. واليوم يجري تنفيذ بنود التسوية. و​لبنان​ ليس سوى جزءٍ صغير منها.

والمؤشرات بدأت بالظهور تباعاً:

1. الانقلاب الحاصل في اليمن حيث اندلع نزاع «حياة أو موت» بين الحليفَين السابقين، الرئيس السابق علي عبد الله صالح والحوثيين. والاتّجاه هو عودة صالح إلى أحضان المملكة العربية السعودية، ما يترك تداعيات حاسمة على مجريات المعركة اليمَنية، خصوصاً إذا تلقّى السعوديون دعماً أميركياً لإقامة حصار بحري يمنع وصولَ المؤن العسكرية ال​إيران​ية إلى اليمن.

وهنا يدخل في السياق أيضاً تعهُّدُ «حزب الله»، بعد عودة الحريري عن استقالته، بوقف أيِّ تدخّل ميداني له في اليمن. و»الحزب» مضطر إلى تقديم «ضمانات ملموسة» في هذا الشأن، لا الكلام فحسب. وهذه الضمانات هي جزءٌ من الشروط التي طرحها السعوديون لإنهاء الأزمة الحريرية.

2. وجّهت إسرائيل، مرّة أخرى، رسائل واضحة في اتجاه الداخل السوري، بقصفها أهدافاً يُرَجَّح أنها إيرانية في محيط دمشق، على مسافة عشرات الكيلومترات من حدودها، وسط صمت إقليمي ودولي تام. وواضح أنّ إسرائيل تحظى بالغطاء لمنع امتلاك الدول المجاوِرة لها أسلحةً نوعيّة أو لمنع وصول الإيرانيين إلى حدودها الشمالية، ما يشكّل تهديداً لأمنها.

3. قدّم الأميركيون «رشوةً» لتركيا وإيران على حدٍّ سواء، في الأسابيع الأخيرة، بوقف المسار نحو إنشاء كيان كردي يهدّد باهتزاز استقرارِهما الكياني. ولكن، في مقابل كبح جموحهما التوسّعي في دول المنطقة.

إذاً، في سياقٍ سياسيٍّ معيّن، جرت «استقالةُ» الحريري وما أعقبها من تداعيات. وصحيحٌ أنّ هناك أخطاءً تنفيذيّة رافقت الخطوة، ومنها تعريض استقرار لبنان للخطر، لكنّ ​واشنطن​ استوعبت الموقف سريعاً وأعادت القطار إلى السكة.

ويعتبر السعوديون والأميركيون أنّ «استقالة» الحريري أدّت وظيفتها كواحدة من مجموعة خطوات يجري تنفيذُها من لبنان إلى اليمن، وتصبّ في الهدف الذي أعلنه الرئيس ​دونالد ترامب​ قبل أسابيع، أي تقليص نفوذ إيران في الشرق الأوسط، والذي يتّفق عليه مع إسرائيل و​الخليج​يين، وكذلك مع الأوروبيين وإن اختلف معهم حول الرغبة في إلغاء الاتّفاق النووي.

والخطوات الإقليمية التي تمّ تنفيذُها حتى اليوم، أو تلك التي هي قيد التنفيذ، ستتبعها أخرى لا تقلّ أهمية. ويتوقّع بعض المطلعين الخطوات الآتية:

1. معالجة «حالة قطر» قريباً، بعد أن يتفرّغ السعوديون من الملف اليمني. واللافت هو أنّ القطريّين- الذين يحتضنون أوّلّ القواعد العسكرية الأميركية في الخليج وأكبرها- قدّموا إشارات تعاون عسكري مع ​موسكو​، من خلال صفقات أسلحة هي الأولى من نوعها. لكنّ هؤلاء المراقبين يعتقدون أنّ الدعم الأميركي الجدّي للقيادة السعودية سيحدّ من الهامش الذي تمتلكه قطر للمواجهة وسيضبط إطارَها.

2. الضغط لتحقيق خطواتٍ في الملف الفلسطيني بعد ترتيب الأوضاع لمصلحة «فتح» داخل السلطة، وبتدخّلٍ مصريٍّ مباشر.

3. إقامة تحالف واسع يضمّ حلفاءَ واشنطن في المنطقة لتمكينهم من مواجهة التمدّد الإيراني. وهناك مسعى لولادة حلف إسلامي أو عربي يضمّ المملكة العربية السعودية وسائر دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء قطر إلى أن تتمّ معالجةُ وضعها، و​الأردن​ ومصر وإدارة الحكم الذاتي الفلسطيني. وهذا الحلف سيكون أساسه قطبان: الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

وأما دور إسرائيل، ومدى تقاربها مع هذا الحلف، فسيكون رهناً بالتسوية التي يجري تحضيرُها للملف الفلسطيني. فإذا تمَّ إقرار تسوية يرضى عنها التحالف العربي، يمكن البدء بالحديث عن تطبيع في العلاقات بين عدد من القوى العربية وإسرائيل.

والمحرِّك الأساسي لهذه العملية هو جاريد كوشنر، صهر ترامب ومستشاره المكلّف معالجة الملف الفلسطيني، والذي يتمتّع بثقة عميقة في إسرائيل. وقد اضطّلع كوشنر بدور محوَري في الأحداث الأخيرة في المملكة العربية السعودية، انطلاقاً من علاقاته الوطيدة مع وليّ العهد.

إذاً، بناءً على هذه المعطيات، يمكن النظر إلى مسار «الملف الحريري» ومستقبل الوضع السياسي في لبنان. وثمّة مَن يتحدّث عن اتّجاه لبنان إلى مقدار أعلى من التوازن السياسي الداخلي في المرحلة المقبلة. وهو ما يريده الأميركيون في لبنان.

ويقول بعض المتابعين إنّ واشنطن تعتبر لبنانَ نقطة انطلاق استراتيجيّة حيويّة لها في الشرق الأوسط. وهي في ​بيروت​ تبني اليوم أكبرَ سفاراتها الإقليمية. ولذلك، هي تعتبر استقرارَ لبنان خطاً أحمر. ويراهن البعض على أنّ «حزب الله» يتفهّم المعطى اللبناني وهو سيتابع سياسة الاستيعاب التي بدأها أخيراً ليتمكّن من مواكبة المرحلة.

وفي اعتقاد أصحاب هذه النظرة، أنّ الحريري يعود إلى الحكم بناءً على تطمينات وضمانات بأنّ أحداً لا يستطيع أن يكسر التوازنَ في لبنان، وأنّ حدودَ السيطرة الإيرانية على القرار اللبناني مضبوطة دولياً، وأنّ الاستقرارَ السياسي هو خطّ أحمر لا يُسمح لأحد التلاعب به.

ولذلك، يقول هؤلاء، إنّ المتحدّثين عن الانتصارات والهزائم تسرّعوا أو أخطأوا… وإنّ التعويل على النتائج الظاهرة لمعركة واحدة لا يكفي لإصدار الأحكام… فيما الحربُ مستمرّة وطويلة!